ما أجملها وأروعها! كمْ هي حلمٌ رقراق، يداعب الأخيلة والأشواق! أكْرِم بمنبتها ومخرجها! ثم أكْرِم وأنْعِم بثمارها وأزهارها وظلالها الوارفة، حسبُها شرفًا أنّها نبتت مَنْبَتًا باهرًا ساحراً، فهي في اللغة(1) راجعة إلى أصلين؛ الأول: الاستخلاص والإظهار، الثاني: الجمال والحسن، ففي لغة العرب: شارَ العسلَ أي استخرجه من الخلية، والشارَةُ حسنُ المنظر؛ فهي، إذَنْ، استخلاص وإظهار أحسن الآراء بعد عرضها وتداول النظر فيها، أمّا في كتاب الله تعالى فقد وردت ملصقة بالمجتمع المثالي هكذا: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى: 38)، وذلك في سورة مكيّة نزلت لتضع دستوراً لأول مجتمع سياسيّ قائم على أرشد الدعائم.
مواضع النزاع وذرائع الضياع
لكنّها اليوم عَصِيَّةٌ أبيّة، تلوح للطامع كظبي جامح لا تناله السهام، وتبدو للعطشى كسحابة هائمة في السماء تبشر بالخير ثم تمضي لا تلوي على شيء، يظنها الناظر قريبة المنال بينما هي بعيدة الوصال؛ فهل نحن بالغوها يوماً من الأيام؟ في الحقيقة ما أكثر القول وما أنْدَرَ الفعل! حتى القول والتنظير شابه الكثير من التشويه الخطير، ولعل أخطر ما تعرضت له الشورى في خطاب المعاصرين هو ذلك الخلاف المفتعل حول حكمها تارة وحول لزومها تارة أخرى، فهذا يقول بالوجوب وذاك يقول بالاستحباب، وكلٌّ يسوق من أقوال العلماء ما يظنّ أنّه ينتج له مدعاه، ثم لم تلبث -بعد أن وضعت الحرب الأولى أوزارها دون حسم- أن شبت حربٌ ثانية لم تُحسم للآن حول لزومها؛ أَهِيَ -سواء قُلْنا بوجوبها أو استحبابها- ملزمةٌ أم معلمة؟ أهي ملزمةٌ للحاكم أم هي مجرد آلية تُعْلِمُهُ بالصواب ثم هو سيد قراره؟
الانقسام حول الإلزام والإعلام
ذهب كثير من العلماء والباحثين المعاصرين(2) إلى أنَّ الشورى ملزمة، وذهب آخرون من المعاصرين أيضًا(3) إلى أنَّ الشورى معلمةٌ فقط، وساق كل فريق من الفريقين أدلته، والعجيب أنّ كل واحد من الفريقين حاول أن يحوز الآية الكريمة في صفّه، وهي قول الله تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران: 159)، فالقائلون بالإلزام قالوا: إنّ العزم هو الأخذ برأي الأكثرية أو الإجماع لأهل الشورى، والقائلون بعدم الإلزام قالوا: إنّ العزم لا يكون إلا بأن يعمل بما عزم عليه سواء وافق أو خالف رأي المشيرين، والواقع أن الآية الكريمة ليس فيها -البتة- أدنى دلالة على أن الشورى ملزمة أو معلمة، فعبارة العزم التي وردت في الآية لا تفيد جواز مخالفة أهل الشورى ولا تفيد إلزاميّتها، وإنّما هي تنتقل بالشورى إلى دائرة التنفيذ؛ حتى لا تتحول الشورى إلى «مكلمة» لا ينبني عليها عمل في واقع الحياة، فليست الآية، إذن، مع أحد من الفريقين.
ومن عجيب ما استدل به الفريقان أيضاً ما روي من قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما: «لو اتفقتما في مشورة ما خالفتكما»، فالأولون أخذوه على ظاهره، والآخرون تأولوه على هذا النحو العجيب: “«يفهم منه أن النبي يأخذ برأي أبي بكر، وعمر، إذا اتفقا في مشورة ولو خالف هذا جمهور الصحابة»(4)، وهذا يعني عندهم أن رأي الأغلبية لا يعمل به، وأن الشورى غير ملزمة ولو كان المشيرون أغلبية! بينما الحديث أصلاً ضعيف؛ لأن في سنده شهر بن حوشب، وعبدالرحمن بن غنم، وعبدالحميد بن بهرام، والثلاثة، مُتَكَلَّمٌ فيهم(5)، فهذا من عجائب الاستدلال في قضية مركزية كهذه! فإذا هجرنا هذا المنهج المتهافت وذهبنا إلى السوابق التاريخية وإلى مقاصد الشريعة طاشت كفّة القائلين بعدم الإلزام.
القول الفصل
إن القول بعدم إلزامية الشورى يفضي إلى إفراغ الشورى من معناها، والدَّفْعُ بأن الشورى شُرعت لمعرفةُ الرأي الصواب(6) لا يُغني إلا كما يُغني من الجوع الاستياكُ بعود الأراك ولا مناص من القول بأنّ الشورى حيث تكون في النظام السياسي فهي ملزمة وواجبة، وإلا فالإبطال لحكمة الحكم الشرعيّ لا مفرَّ منها.
_________________________________
(1) راجع المصباح المنير، ص 196، المعجم الوسيط، ص 449، لسان العرب (5/ 225) وما بعدها مادة شور.
(2) منهم د. أحمد رسلان في رسالته للدكتوراة عن الشورى، ود. عبدالحميد الأنصاري في رسالته للدكتوراة عن الديمقراطية وأثر الشورى في تحقيقها، ود. يوسف القرضاوي، والشيخ محمد الغزالي، في كتابه «الإسلام والاستبداد السياسي»، والشيخ عبدالرحمن عبدالخالق في كتابه «الشورى في ظل نظام الحكم الإسلامي»، ود. محمد العربي في كتابه «نظام الحكم في الإسلام».. وغيرهم.
(3) منهم د. عبدالحميد متولي في كتابه «مبدأ الشورى في الإسلام»، وفي كتابه «مبادئ نظام الحكم في الإسلام»، ود. محمد يوسف موسى في كتابه «نظام الحكم في الإسلام»، وأحمد عبدالحفيظ عبد السميع في رسالته للماجستير «الشورى كيفيتها ومدى إلزامها»، ود. حسن هويدي في كتابه «الشورى في الإسلام»، وغيرهم.
(4) مبدأ الشورى في الإسلام د. عبدالحميد متولي، ص 15.
(5) ر: تهذيب التهذيب (6/250).
(6) ر: الشورى كيفيتها ومدى إلزامها عبد السميع رسالة ماجستير بكلية الشريعة بالقاهرة برقم (2305)، ص 122.