الشيخ محمد الخضر حسين
جاء الإسلام ليحرز به الناس في الدنيا مدنية فاضلة، ويغنموا به في الآخرة سعادة خالصة، وكان من مقتضيات هذا المقصد الأسمى أن تشتمل تعاليمه على نظم لصلة المخلوقين بالخالق، جلَّ شأنه، وهي أحكام العبادات، ونظمٍ لصلة الإنسان بأخيه الإنسان وهي أحكام المعاملات، ونريد من المعاملات ما يشمل القضاء وتدبير السياسة.
وحيث كانت العبادات والمعاملات لا تجري على وجه صحيح منتظم إلا أن تصدر عن آداب نفسية نبيلة راسخة، كان من حكمة الدعوة أن تعنى بتهذيب الأخلاق، ولا تكتفي بتقرير أحكام الأفعال التي هي مناط التكليف.
وبهذا أخذ النظر في الأخلاق والآداب النفسية من علوم الشريعة مكاناً واسعاً.
وإذا نظرنا إلى الأخلاق التي تساعد على القيام بالواجبات العملية، وجدناها ترجع إلى الحلم، والسخاء، والشجاعة، والحياء، وصدق اللهجة، والصبر، وعزة النفس، والتواضع، وكبر الهمة، والوفاء بالعهد، والزهد، والعدل، والأمانة.
وليس من غرضنا الليلة أن نتحدث عن هذه الخصال مثلما يتحدث عنها علماء النفس بتفصيل، إذ يتعرضون للبحث عن حقائقها، ويقسمونها إلى أصول وفروع، ويذكرون ما بين فروعها من مناسبات أو فروق، ويدلون على الآثار المترتبة عليها، ويصلون حديثهم بالبحث عن كيفية تربية النشء عليها، كان هذا التفصيل يستدعي تخصيص كل خصلة منها بمحاضرة على أقل تقدير.
والذي أستطيعه في هذا المقام إنما هو إلقاء نظرة على هذه الآداب، أقصر فيها القول على ناحية ارتباط الهداية الإسلامية بها، وتنبيهها على سمو مكانتها، وحثها الناسَّ على التجمل بِحِلْيتها؛ حتى يزداد شبابنا علماً بأن الدين الحنيف قد أتى إلى الأخلاق وهي الأساس الذي تقوم عليه سعادة الأمم؛ فهذبها وأرشد إليها على طريقة أقرب إلى العقول، وأدعى إلى العمل عليها من الطرق التي سلكها الفلاسفة.
أما الحلم الذي هو ضبط النفس عن أن يهيجها الغضب بسهولة وسرعة، فقد ذكره القرآن المجيد في صفات المؤمنين بحق فقال تعالى: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ) (آل عمران: 134)، فإن عقب هذه الطمأنينة ترك المؤاخذة على الإساءة، فذلك العفو المشار إليه بقوله تعالى: (وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ).
فطمأنينة النفس عند الإساءة بحيث لا يحركها الغضب بسهولة كمال في نفسها، فإن انضم إليها ارتياح النفس لعدم المؤاخذة على الذنب كان الكمال مضاعفاً.
ووجه ارتباط خلق العفو بما دعا إليه الإسلام، هو أن من مقاصد الدعوة تكوين أمة مؤتلفة القلوب، متعاونة على البر والتقوى.
ولا يمكن تحقيق هذا القصد إلا أن تنتفي أسباب التجافي والتقاطع.
وحيث كانت الجماعات الكبيرة لا تخلو من أن يتعرض طائفة لطائفة بمكروه من قول أو فعل؛ كان من الآداب التي عنيت بها دعوة الإسلام الإغضاء عن أمثال هذه الهفوات، وشمولها بالعفو.
وللحلم بمعنى عدم إظهار الغضب أثر عظيم في نجاح السياسة، ولربما ابتسم الكريم من الأذى، وفؤاده من حَرِّه يتأوه.
وقد عد الحلم بمعنى الإغضاء عن بعض الزلات في مقتضيات السياسة الرشيدة، قال في وصف سياسة أميره:
وعيداً فإن لم يُغْنِ أغنت عزائمه أناةٌ فإن لم تُغْنِ عَقَّب بعدها
وفي عهد ذوي الحلم والأناة من رجال الدولة يجد المصلحون مجال الدعوة أمامهم فسيحاً؛ فيعملون في طمأنينة وثقة من إدراك أسمى المقاصد وأحمد العواقب.
وأما السخاء، فإن من مقاصد الشريعة سد حاجات الفقراء وإعانتهم على القيام بتكاليف الحياة، ومن أجل هذا فَرَضتْ الزكاة، ونَدَبَتْ إلى الصدقات، وقررت بعد هذا على الرجل حقوقاً مالية كالإنفاق على الزوجات والأبناء وبعض ذوي القربى؛ فلا جرم أن يعنى الإسلام بتطهير النفوس من رذيلة الشح وتَحْلِيَتِها بفضيلة السخاء، حتى إذا ورد الأمر بالإنفاق في وجه من الوجوه سارعت إلى امتثاله عن طيب خاطر، وجاءته كأنما تَنْحَطُّ من صَبَب.
ولا أكون مخطئاً إذا قلت: إنّ من أسباب العاقبة السيئة التي سار إليها كثير من الشعوب الإسلامية انقباضَ الأيدي عن البذل في سبيل الله.
لم يكتف الشرع الحكيم من المسلم أن ينفق من فضل ماله، بل مدحه بأعلى مراتب السخاء وهو أن يؤثر غيره بالنوال وهو في حاجة إليه فقال تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) (الحشر: 9).
وأما الشجاعة فنوعان: شجاعة حربية؛ وهي بذل النفس في سبيل الدين أو العرض أو المال، وشجاعة أدبية: وهي إقدام الرجل على إسماع ذي سلطان كلمة الحق من أمر بمعروف أو نهي عن منكر، من غير مبالاة بما يلحقه من أذى السلطان، وكلتا الشجاعتين شملها الإسلام بعناية كبيرة.
أما الشجاعة الحربية، فقد أمر الرجل الواحد من المسلمين بأن يقف في مشاهد القتال لرجلين اثنين من المخالفين المهاجمين، وجعل الفرار من الزحف كبيرة موجبة لغضب الله تعالى وإنما جزاؤها يوم القيامة الحرق بالنار.
وأما الشجاعة الأدبية، فقد جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من واجبات الإيمان، ولا يختص هذا الواجب بعلماء الدين الرسميين، ولا بالعلماء المتميزين بزي خاص، بل هو فريضة في عنق كل مسلم تُرِكَ أمامه معروفٌ، وهو يعلم أنه معروف، أو فُعِل أمامه منكرٌ وهو يعلم أنه منكر.
وقد تكلم الفقهاء المحققون عن هذه الفريضة بما يشبه(1) غليل الباحث، وأذكر هنا أن الإمام عرفة أفتى بأن خوف العزل من الوظيفة ليس بعذر يجيز ترك النهي عن المنكرات.
فكل مسلم مطالب بأن يكون جامعاً للفضيلتين؛ الشجاعة الحربية، والشجاعة الأدبية ما استطاع.
ومن عرف أن الأمة لا تقع تحت سلطان أجنبي غاشم إلا بفقدها للشجاعة الحربية، وأن الفسوق والبغي لا ينتشران بين بيوتها إلا بفقدها للشجاعة الأدبية؛ أدرك سر عناية الشرع الحكيم بهاتين الفضيلتين.
وأما الحياء، وهو انفعال في النفس يمنع من ارتكاب ما لا يليق، فقد كانت عناية الدين به شديدة، حتى جعله عليه الصلاة والسلام شعار الإسلام، فقال كما ورد في الصحيح: «لكل دين خلق وخلق الإسلام الحياء».
وفَضْلُه في أن يكون معتدلاً واعتداله في أن يمنع من ارتكاب ما لا يليق، ولا يتجاوزه إلى الإحجام عما يكون بعيداً.
________________________
(1) لعلها: يشفي(م).
(2) مجلة الهداية الإسلامية الجزءان السادس والثامن من المجلد السابع عشر، وانظر: محاضرات إسلامية، ص 168 – 176.