- هل هناك أثر للإيمان في تكوين الضمير؟
– الإيمان –بلا ريب– أعظم مدد للضمير، وأقوى مولد يغذيه ويمده بالتيار الذي يمنحه الضوء، والحرارة والقوة والحركة.
فعقيدة المؤمن في الله أولاً، وعقيدته في الحساب والجزاء ثانياً، تجعل ضميره في حياة دائماً وفي صحو دوماً.
إنه يعتقد أن الله معه حيث كان؛ في السفر أو في الحضر، في الجلوة أو في الخلوة، لا يخفى عليه خافية، ولا يغيب عنه سر ولا علانية، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (المجادلة: 7)، (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) (يونس: 61)، وقد كان المشركون يأتمرون برسول الله صلى الله عليه وسلم فينزل الوحي من الله يفضح سترهم، ويكشف أمرهم، فقال بعضهم لبعض: غضوا أصواتكم حتى لا يسمعنا إله محمد، فنزل قول الله تعالى: (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ. أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الملك:13-14).
ويعتقد المؤمن لذلك أنه محاسب يوم القيامة على عمله، مجزيّ به إن خيراً أو شراً فما تقدم من عمل لم يذهب بذهاب أيامه، بل كتبه “قلم التسجيل الإلهي”، الذي يحصي له وعليه الصغيرة والكبيرة: (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ. مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (ق:16-17)، (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ. كِرَاماً كَاتِبِينَ. يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) (الانفطار:9-11)، (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) (الزخرف: 80).
هذه السجلات الوافية لن يضيعها الإهمال، ويمحوها مرور الزمان.
إنها ستحفظ عند الله حتى يتلقاها صاحبها يوم الجزاء؛ (وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً. اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) (الإسراء: 12-13).
وحينذاك يجد ما كان يحسبه هيناً وهو عند الله عظيم، ويذكر من الأعمال ما كان ناسياً: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) (الكهف: 49)، (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (المجادلة: 6).
هناك توزن الأعمال من خير أو شر، من حسنات وسيئات، بميزان إلهي دقيق لا يعرف كنهه ولا كيفيته، ثم الحساب الإلهي العادل؛ (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) (الأنبياء: 47)، (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ) (الأعراف: 8-9).
وبعد ذلك فريق في الجنة وفريق في السعير؛ (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلُيماً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً) (النساء: 173).
بهذه العقيدة في الله، وفي الجزاء في الآخرة، يصبح المؤمن ويمسي مراقباً لربه محاسباً لنفسه، متيقظاً لأمره، متدبراً في عاقبته، لا يظلم ولا يخون، لا يتطاول ولا يستكبر، لا يجحد ما عليه، ولا يدَّعي ما ليس له، لا يفعل اليوم ما يخاف من حسابه غداً، ولا يعمل في السر ما يستحي منه في العلانية.
يقول ما قاله الشاعر:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل
خلوت، ولكن قل: عليَّ رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة
ولا أن ما تخفيه عنه يغيب
وسئل بعضهم عن قوله تعالى: (رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) (البينة: 8)، فقال معناه: لمن راقب ربه عز وجل، وحاسب نفسه، وتزود لمعاده.
وقال محمد بن عليّ الترمذي: “اجعل مراقبتك لمن لا تغيب عن نظره إليك، واجعل شكرك لمن لا تنقطع نعمه عنك، واجعل طاعتك لمن لا تستغني عنه، واجعل خضوعك لمن لا تخرج عن ملكه وسلطانه”.
وسئل ذو النون: بم ينال العبد الجنة؟ قال: بخمس؛ استقامة ليس فيها روغان، واجتهاد ليس معه سهو، ومراقبة لله في السر والعلانية، وانتظار الموت بالتأهب له، ومحاسبة نفسك قبل أن تحاسَب.
عقاب النفس
إن الضمير الذي يربيه الإيمان برقابة الله، وبحساب الآخرة، ضمير حي يقظ مرهف الحساسية، يحاسب المؤمن قبل أن يقوم على العمل: ماذا تعمل؟ لماذا تعمل؟ لمن تعمل؟ ويحاسبه بعد العمل: ماذا عملت؟ كيف عملت؟ هو قاض مستعجل يصدر حكمه سريعاً بالمثوبة أو العقوبة، وليست عقوبته مقصورة على الوخز النفسي واللذع المعنوي، إنه أحياناً يقرر عقوبات مادية أيضاً.
قال الحسن البصري في قوله تعالى: (وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) (القيامة: 2)، قال: لا يلقى المؤمن إلا يعاتب نفسه، ماذا أردت بكلمتي؟ ماذا أردت بأكلتي؟ ماذا أردت بشربتي؟ والفاجر يمضي قدماً لا يعاتب نفسه.
وقال أيضاً: “المؤمن قوام على نفسه يحاسبها لله، وإنما خف الحساب على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما ثقل الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة، ثم فسر المحاسبة فقال: المؤمن يفجُؤه الشيء، فيرجع إلى نفسه فيقول: ماذا أردت بهذا؟ والله لا أعذر بهذا، والله لا أعود إلى هذا أبداً إن شاء الله، وهذا حساب بعد العمل”.
قال مالك بن دينار: “رحم الله امرءاً قال لنفسه: ألست صاحبة كذا؟ ألست صاحبة كذا؟ ثم زمها ثم خطمها ثم ألزمها كتاب الله فكان له قائداً”.
وقال إبراهيم التيمي: “مثلت نفسي في الجنة آكل من ثمرها وأشرب من أنهارها، وأعانق أبكارها، ثم مثلتها في النار آكل من زقومها، وأشرب من صديدها، وأعالج سلاسلها وأغلالها.. ثم قلت لنفسي: يا نفس أي شيء تريدين؟ قالت: أريد أن أرد إلى الدنيا، فأعمل صالحاً، قال: فأنت في الأمنية فاعملي”!
وهذه طريقة اتخذها الرجل في إيقاظ نفسه، وإن شئت فقل: في إحياء ضميره، لقد تخيل المتوقع واقعاً والغائب حاضراً، ثم قال لنفسه بعد أن عرض عليها الصورتين: تخيري واعملي!
وهناك طريقة أخرى كان الأحنف بن قيس يصطنعها ليذكّر نفسه بنار الآخرة وعذابها، كان يجيء إلى المصباح فيضع إصبعه فيه حتى يحس بالنار ثم يقول لنفسه: يا حنيف، ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟ ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟ ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟
ومن أساليب محاسبة النفس، ما رُوي عن توبة بن الصمة، وكان محاسباً لنفسه أنه حاسبها يوماً، فإذا هو ابن ستين سنة فحسب أيامها، فإذا هي واحدة وعشرون ألف يوم وخمسمائة يوم، فصرخ وقال: يا ويلتى! ألقى الله بواحد وعشرين ألف ذنب! فكيف وفي كل يوم عشرة آلاف ذنب؟!
ومن الأمثلة لأحكام العقوبة التي يصدرها ضمير المؤمن، فيتقبلها ويسرع إلى تنفيذها، ما رُوي عن أبي طلحة الأنصاري رضي الله عنه أنه اشتغل قلبه في الصلاة بطائر في حائطه (بستانه) فتصدق بالحائط كفارة لذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العدد (1411)، ص57 – غرة جمادى الأولى 1421ه – 1/8/2000م.