لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله تعالى في صبيحة كل يوم ومسائه من العجز الذي يُقعد صاحبه عن تحقيق ما خُلق له من عبودية ربه، وتعمير أرضه، فيقول صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن وأعوذ بك من العجز والكسل..»، والنبي صلى الله عليه وسلم مدرك تماماً لمآلات هذا العجز الذي يُحطم الهمم، ويبطئ المسير، ويُقعد المتحفز، ويطفئ الحماسة.
فالعجز صخرة النجاح، فهو مستعيذ بالله تعالى منه، وطالب الاستعانة به في دفعه عنه وعن أمته، وقد نصح أصحابه وعلَّمهم أمر الرايات الثلاث قائلاً: «احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ، وَلَا تَعْجَزْ» (رواه مسلم)، فجمع لهم ثلاث وصايا مهمة في الوصول إلى إنجاح الغايات، وتحقيق الأهداف، وتسويد الصحائف بمداد ملك اليمين بالأعمال الصالحة، وختم القبول الإلهي.
فأولها: «احرص على ما ينفعك»؛ وهذا يتطلب خطوات مهمة لتنفيذها:
أولاها: إبصار النفع وإدراكه في الشيء: فلا يتم حرص على شيء إلا إذا كنت مبصراً له مدركاً لحقيقته من علم وعمل، ومن طاعة وكسب، ومن تجارة دنيوية كانت أم أخروية، وهذا يتطلب الوقوف الكامل على كينونة المحروص عليه قبل الدخول فيه.
والمتتبع لسير الفائزين بجنان الدنيا والآخرة من سلف وخلف تجده محققاً لهذه الوصية النبوية بشكل كامل وفريد، فلا يكاد يغفل عن موطن نفعه ولا ينشغل بغيره عنه، وقد يتعدد النفع في الشيء الواحد بين الدنيا والآخرة؛ كالحريص على العلم بشكل عام، والقرآن الكريم حفظاً وتلاوة وقراءة وإقراء وجمعاً وتحبيراً بشكل خاص، فهو مع القرآن أينما توجه، مصاحباً له مرافقاً لآياته في الأندية والجماعات، والبيت والخلوات، يحبره هو بقراءته فيحبره القرآن بعطاياه وأخلاقه وشخصيته، فرأينا أُبياً، وأبا موسى، وزيد بن ثابت، وأبا الدرداء، وسالم مولى أبي حذيفة وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم، ورأينا نافعاً، وابن كثير، وأبا عمرو، وعاصماً وغيرهم من كبار القراء، ورأينا من معاصرينا الحصري، وعبدالصمد، والمنشاوي وغيرهم لما حرصوا جميعاً على ما ينفعهم وقد أبصروا حقيقته وأدركوا ثمرته كيف كان النفع لهم ذكراً وخيراً في الدنيا، ونرجو نيل عظيم أجورهم في آخرتهم ببركة ما تلوه حق تلاوته من كتاب الله تعالى.
وقس على ذلك كل شيء تحرص عليه وترجو تحقيقه أن تدرك نفعه وتبصر ثمرته أولاً قبل الولوج عليه والدخول فيه، شريطة أن يربط هذا النفع بجمع ثماره بين الدنيا والآخرة معاً.
ثانيتها: جمع الأسباب لتحقيق كمال النفع، فالحرص على اجتماع الأركان والجنان والأفكار في تحقيق الشيء وتفعيله، فلا يكاد يغفل عنه بجارحة، أو يضيّع سبباً في تحصيله والظفر به على كامل نفعه وثمرته، وهذا ما أمرنا به في كثير من توجيهات شرعنا الإسلامي، من ذلك: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم) (الأنفال: 60)، (وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً) (التوبة: 46)، (فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ) (الجمعة: 10)، ومن السُّنة المشرفة كقوله صلى الله عليه وسلم: «فر من المجذوم فرارك من الأسد»، وقوله: «إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ الَّذِي يَجِدُ».
فالمشكلة الحقيقية في عدم إدراك الأشياء وتحقيق الغايات وتوريث العجز هو غياب هذه السُّنة في حياة الناس؛ إما بذلاً لبعض الأسباب دون حصرها وجمعها، وإما تركاً لها بالكلية وانتظار موهوم الفرج، وكلاهما انتفاء لفكرة الحرص المزمع وجوده من الفرد.
ثالثتها: الانشغال بالنفس في تحقيق النفع: فالمسلم الذي ينشغل كثيراً بغيره أو يحرص على نفع غيره دون نفع نفسه مغبون مخدوع، وللأسف إذا تكلمت معه وحاورته في ذلك يسرد عليك جملة من الآيات والأحاديث الداعمة لفعله والمؤسسة لسعيه دون النظر إلى مثل هذا الحديث القوي في إرشاده وتوجيهه، وأنا هنا لا أنفي ما يقوله ويسرده، وإنما أنفي حصره وتقديمه في غير موضعه، فأورادك وعلمك وتعليمك وعبادتك وتجارتك وغيرها أمر متعلق بك أنت، وتحصيله لا بد أن يكون في أولويات عملك ونشأته منك، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ) (المائدة: 105)، وقال تعالى على لسان إبراهيم: (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ) (مريم: 48)، والآيات كثيرة.
وانظر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعند مسلم عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: أَعْتَقَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عُذْرَةَ عَبْدًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «أَلَكَ مَالٌ غَيْرُهُ؟»، فَقَالَ: لَا، فَقَالَ: «مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي؟» فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِاللهِ الْعَدَوِيُّ بِثَمَانِ مِائَةِ دِرْهَمٍ، فَجَاءَ بِهَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَلِأَهْلِكَ، فَإِنْ فَضَلَ عَنْ أَهْلِكَ شَيْءٌ فَلِذِي قَرَابَتِكَ، فَإِنْ فَضَلَ عَنْ ذِي قَرَابَتِكَ شَيْءٌ فَهَكَذَا وَهَكَذَا»، يَقُولُ: «فَبَيْنَ يَدَيْكَ وَعَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ شِمَالِكَ» فقد بدأ بنفسه أولاً قبل كل أحد، ويؤيده ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم لعبدالله بن عمرو كما عند أب داود الطيالسي في مسنده: «يَا عَبْدَ اللَّهِ، ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَاغْزُهَا، وَابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَجَاهِدْهَا..».
والسلف في تطبيقه أكثر، فما حرصهم على أمتهم وعلى قضايا دينهم إلا لأنهم لم يهملوا أنفسهم ولم يبتعدوا عن الانشغال بما يكونون عليه من تفردات تأخذ بصلاح أنفسهم وجبر كسرهم وإلمام شعثهم، فأنتجوا وأبدعوا على المستويين الفردي الذي كان جذوة الانطلاق للعمل الجماعي.
الوصية الثانية: «استعن بالله»:
وفي الاستعانة بالله من المعاني الجليلة العظيمة ما كثر ويكثر في سرده العلماء والكتّاب، وجلها تدور حول: تمام العبودية لله تعالى، ورؤية الله سبحانه في كل أمر، وإنزال الله منزلته وتقدير قدره، وتأكيد النفع والضر منه وحده دون غيره، واستخارته في مقبل الأحوال والأحداث، وإعلان ضعف المخلوق وافتقاره الدائم إليه، وربط كل ما يحرص عليه المسلم ويرجو نفعه بشريعته وحله، وطلب رضاه وتوفيقه.. وغير ذلك.
وهذه المعاني وغيرها إنما هي دلالات قوة العقيدة في القلب، وسلامة الوعي في العقل، وصحة السير في الأركان لله تعالى، ولقد كان الأنبياء والمرسلون ليبثون استعانتهم بربهم في دقيق الأمور وعظيمها في خلواتهم وجلواتهم تأكيداً لهذا المعنى وترسيخاً له، حتى جعلها ربنا شعاراً يومياً مكرراً في حياتنا في جميع لقائنا به رافعين: «إياك نعبد وإياك نستعين».
لكن ما يلفت الانتباه هنا هو جعلها وسطاً في حديث نبينا بين حرص المرء على ما ينفعه وبين ترك ما يعجزه، وكأني برسول الله في ترتيب كلماته يجعل الاستعانة بالله حاملة للأمرين معاً، فالحرص على ما ينفع يحتاج في بيانه وقوته وديمومته للاستعانة بالله، كما أن ترك العجز والفتور والمثبطات وتراجع الأداء يحتاج الاستعانة بالله، فهي معك أينما حللت، وهي معك في توجيهاتك في كسب الشيء النافع أو ترك الشيء الضار.
والوصية الثالثة: «ولا تعجز»:
وهذا أهم شيء للوصول لغايتك والوقوف على نضوج ثمرتك، والمرء لا يُتهم في حرصه ولا في استعانته، وقد يؤكد بفعله ما مر في ذكرهما ويجمع شروط تحقيقهما لكنه قد يفرط في هذه الأخيرة في تحقيقها.
وسبب العجز متعدد، إذا ما عرف ودرس انتفى بالإبصار وتغلب عليه بقوة الاقتدار، فمن ذلك:
– عدم التدرج في الفعل والصعود بروية في تحقيقه؛ فما يؤخذ بفورة العمل في صعوده سرعان ما يدب له انكماش المنحنى في نزوله.
– عدم معرفة البدايات الصحيحة؛ فكثير ممن يدخل العمل لا يعرف من أين يبدأ، فتراه تغلبه عاطفته على تعقله ويضيع الباب الصحيح في الدخول عليه، فلا يكاد مع زهو شروق البداية وبهرجها أن ينصدم بعتمة الليل التي تعتري العمل فلا يصبر معها على طلوع فجره وشمسه، فتراه يعود بأدراجه ويترك مسيره.
– التشتت في الأعمال؛ فالله تعالى قد أسس لنا بقوله سبحانه: (مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) (الأحزاب: 4)، قاعدة في التركيز في الأشياء لتحقيقها وإتمامها، لكن ابتلينا بفتح جبهات ومواضيع وملفات نلج فيها جميعاً فلا ننتج أياً منها، ولو أنتجنا لم يكن فيها شيء من الإتقان أو الإحسان، وإذ به يعتذر عندما توجهه وتخالف فعله بسيل من العبارات التي تستخدم في غير موضوعها، كقوله: «استعمالي في أبواب الخير، أو خوفي من ترك الملفات فتضيع، أو سددوا وقاربوا..»، ولا أعترض على استدلالك، وإنما اعترض على فهمك، ألم تسأل نفسك يوماً ما: لماذا لم أنجز في أي منها؟! ولماذا لم أوفق لإخراج أفضل صورة أردتها في هذا العمل؟! والإجابة بسيطة: أنت ببساطة رجل مشتت.
– انتفاء التخطيط في حياتك؛ والتخطيط يعني معرفة مقدار الجهد المبذول في الوقت المعلوم لتحقيق المأمول، ويعني ملازمة البند لاستيفاء الحد، فتلازم كل بند في تخطيطك لاستيفاء حده فتنطلق مطمئناً لما بعده.
– رؤية النموذج والتجربة العاجزة وعدم البحث عن التجربة والنموذج الناجح، وخاصة إذا كانت قريبة منك، فسرعان ما ينقل لك مثبطات تجربته واستحالة تجاوز ما يتجاوزه.
– ومع ما ذكرت، فزد من أسباب العجز: قلة الزاد، انفصال الإيمان عن الأعمال، توقع الفشل، ترك المحاسبة، غياب الداعم.. وغير ذلك.
– وعلاج كل هذه الأسباب في تركها والأخذ بعكسها.
وخلاصة المقال: إننا نريد تحقيق هذه السُّنة، واستلام هذه الرايات استلاماً قوياً، وتأكد أن بها لا بغيرها تحقق النجاح وتصل للغاية وتفرح بالثمرة.