إنَّ من أهداف الحكم الإسلامي الحرصَ على إقامة قواعد النظام الإسلامي التي تساهم في إقامة المجتمع المسلم، ومن أهم هذه القواعد العدل، قال تعالى: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ) (النحل: 90)، وأمرُ الله بفعلٍ، كما هو معلوم، يقتضي وجوبه، وقال تعالى: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ) (النساء: 58)، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً) (النساء: 135).
وقد سجَّل التاريخ بأن نور الدين محمود زنكي ساد العدل في دولته، وتمَّ إيصال حقوق الناس إليهم، فنشطوا في الجهاد، والدفاع عن دينهم، وعقيدتهم، وأوطانهم، وأعراضهم، ومن أبرز أعماله الإصلاحية والتجديدية إقامته للعدل في دولته. (دروس وتأملات في الحروب الصليبية، ص 205)
وقد أولى نور الدين المؤسسة القضائية اهتماماً كبيراً، وجعلها في قمة أجهزته الإدارية، وخوَّل القضاة على اختلاف درجاتهم في سلَّم المناصب القضائية صلاحيات واسعة -إن لم نقل مطلقة- ومنحهم استقلالاً تاماً، لكونهم الأداة التنفيذية لإقرار مبادئ الحق والعدل، وتحويل قيم الشريعة ومبادئها إلى واقع ملتزم، وتوِّجت جهوده بإنشاء دار العدل، التي كانت بمثابة محكمة عليا لمحاسبة كبار الموظفين، وإرغامهم على سلوك المحجة البيضاء، أو طردهم واستبدالهم بغيرهم إن اقتضى الأمر. (نور الدين محمود الرجل والتجربة، ص 75).
وكان شعاره ما أكده لأصحابه مراراً: «حرامٌ على كلِّ من صحبني ألا يرفع إليَّ قصة مظلوم لا يستطيع الوصول إليَّ»، ويحكي خادمه شاذبخت الطواشي الهندي -الذي كان أحد نوابه في حلب- هذه الحادثة، ذات الدلالة الواضحة في هذا المجال: «كنت يوماً أنا ورجلٌ واقفين على رأس نور الدين، وقد صلى المغرب، وجلس، وهو يفكِّرُ فكراً عظيماً، وجعل ينكش بإصبعه الأرض، فعجبنا من فكره، وقلنا: في أي شيء يفكر؟ في عائلته؟ أو في وفاء دينه؟ وكأنه فَطِنَ بنا، فرفع رأسه، وقال: ما تقولان؟ فأجبناه بعد تردُّد، فقال: والله إني أفكر في والٍ وليته أمور المسلمين، فلم يعدل فيهم، أو فيمن يظلم المسلمين من أصحابي، وأعواني، وأخاف المطالبة بذلك أمام الله، فبالله عليكم.. وإلا فخبزي عليكم حرام، لا تريان قصة مظلوم لا ترفع إليَّ، أو تعلمان مظلمة إلا وأعلماني بها، وارفعاها إليَّ. (الكواكب لابن قاضي شهبة، ص 25، نور الدين محمود، ص 75).
إجراءاته القضائية والعدلية:
1- دار العدل أو المحكمة العليا: كانت قمة إجراءاته القضائية إنشاءه داراً في دمشق، لكشف المظالم سمَّاها «دار العدل»، وكانت أشبه بمحكمة عليا لمحاسبة كبار الموظفين، ثم عُمِّمَتْ صلاحياتها، فامتدت أقضيتها إلى سائر أبناء الأمة، وقد جاء إنشاؤها بسبب تزايد عددٍ من كبار الأمراء في دمشق، وبخاصة أسد الدين شيركوه، وتماديهم في اقتناء الأملاك، وتجاوز بعضهم حقوق البعض الآخر، فكثرت الشكوى إلى قاضي القضاة كمال الدين الشهرزوري، فأنصف بعضهم من بعض، لكنه لم يقدر على الإنصاف من شيركوه، فأنهى الحال إلى نور الدين، فأصدر أمره حينئذٍ ببناء دار العدل. (نور الدين محمود الرجل والتجربة، ص 76).
2- استجابته للقضاء: طُلِبَ مرة من قبل أحد المدعين، فما كان من أحد كبار موظفيه إلا أن دخل عليه ضاحكاً، وقال مستهزئاً: يقوم المولى إلى مجلس الحكم، فأنكر نور الدين على الرجل سخريته، وقال: تستهزئ لطلبي إلى مجلس الحكم؟ وأردف: يُحْضَرُ فرسي؛ حتى نركب إليه، السمع والطاعة، قال الله تعالى: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) (النور: 51).
ثم نهض، وركب؛ حتى دخل باب المدينة، واستدعى أحد أصحابه وقال له: امضِ إلى القاضي، وسلِّم عليه، وقل له: إني جئت هاهنا امتثالاً لأمر الشرع. (الباهر، ص 166 – 167).
3- لا عقوبة على الظنة والتهمة: لم يكن نور الدين يصدر العقوبة على الظنة والتهمة، بل يطلب الشهود على المتهم، فإن قامت عليه البينة الشرعية؛ عاقبه العقوبة العادلة من غير تعدٍّ، فدفع الله بهذا الفعل عن الناس من الشر ما يوجد في غير ولايته مع شدة السياسة، والمبالغة في العقوبة، والأخذ بالظنة، وأمنت بلاده مع سعتها، وقلَّ المفسدون ببركة العدل، واتِّباع الشرع المطهر. (نور الدين محمود الرجل والتجربة، ص 80).
4- من عدله بعد موته: ومن عدله أيضاً بعد موته، وهو من أعجب ما يحكى: «أنَّ إنساناً كان بدمشق، استوطنها، وأقام بها لما رأى من عدل نور الدين، رحمه الله، فلّما توفي تعدَّى بعض الجنود على هذا الرجل فشكاه، فلم يُنصف، فنزل من القلعة وهو يستغيث، ويبكي، وقد شق ثوبه وهو يقول: يا نور الدين، لو رأيتنا وما نحن فيه من الظلم؛ لرحمتنا، أين عدلك؟ وقصد تربة نور الدين، ومعه من الخلق ما لا يحصى وكلّهم يبكي، ويصيح، فوصل الخبر إلى صلاح الدين، وقيل له: احفظ البلد والرعية وإلا خرج عن يدك، فأرسل إلى ذلك -وهو عند تربة نور الدين يبكي والناس معه- فطيب قلبه، ووهبه شيئاً، وأنصفه، فبكى أشد من الأول، فقال له صلاح الدين: لِمَ تبكي؟ قال: أبكي على سلطان عدلٍ فينا بعد موته، فقال صلاح الدين: هذا هو الحق، وكل ما نحن فيه من عدل فمنه تعلَّمناه».
5- رقبتي دقيقة لا أطيق حملها والمخاصمة عليها بين يدي الله تعالى: قال ابن الأثير: «وحكى لي من أثق به: أنَّه دخل يوماً إلى خزانة المال، فرأى فيها مالاً أنكره، فسأله عنه: فقيل: إن القاضي كمال الدين أرسله، وهو من جهة كذا، فقال: إن هذا المال ليس لنا، ولا لبيت المال في هذه الجهة شيء، وأمر برده وإعادته إلى كمال الدين، فردَّه إلى الخزانة، وقال: إذا سألكم الملك العادل عنه؛ فقولوا له عنِّي: إنه له، فدخل نور الدين الخزانة مرّة أخرى، فرآه، فأنكر على النُّواب قال: ألم أقل لكم يعاد هذا المال إلى أصحابه، فذكروا له قول كمال الدين، فردَّه إليه وقال للرسول: قل لكمال الدين: أنت تقدر على حمل هذا المال، وأما أنا فرقبتي دقيقة لا أطيق حملها، والمخاصمة عليها بين يدي الله تعالى! يُعاد قولاً واحداً». (عيون الروضتين، 1 / 364).
_______________________________
1- دروس وتأملات في الحروب الصليبية، علي الصلابي.
2- نور الدين محمود الرجل والتجربة، عماد الدين خليل.
3- الكواكب، القاضي أبو شهبة.
4- عيون الروضتين في أخبار الدولتين، أبو شامة المقدسي.
5- الإسلام والوعي الحضاري، د. أكرم العمري.