- هل السياسة في عمومها مُر مُنكر؟
– السياسة –من الناحية النظرية– علم له أهميته ومنزلته، وهي من الناحية العلمية مهنة لها شرفها ونفعها؛ لأنها تعلق بتدبير أمر الخلق على أحسن وجه ممكن.
نقل الإمام ابن القيم عن الإمام أبي الوفاء بن عقيل الحنبلي أن السياسة في الفعل الذي يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد ما دامت لا تخالف الشرع.
وذكر ابن القيم أن السياسة العادلة لا تكون مخالفة لما نطق به الشرع، بل هي موافقة لما جاء به، فهي جزء من أجزائه ونحن نسميها سياسة تبعاً لمصطلحكم، وإنما هي عدل الله ورسوله. (انظر: الطرق الحكمية في السياسة الشرعية لابن القيم، ص13 – 15، ط السُّنة المحمدية).
وقد نوه علماؤنا السابقون بقيمة السياسة وفضلها، حتى قال الإمام الغزالي: “إن الدنيا مزرعة الآخرة، ولا يتم الدين إلا بالدنيا، والملك والدين توأمان، فالدين أصل والسلطان حارس، وما لا أصل له فمهدوم، وما لا حراس له فضائع” (إحياء علوم الدين (17/1)، باب العلم الذي هو فرض كفاية ط. دار المعرفة – بيروت).
وقد عرفوا الإمامة أو الخلافة بأنها نيابة عامة من صاحب الشرع وهو رسول الله في حراسة الدين وسياسة الدنيا به. (انظر: النظريات السياسية الإسلامية للدكتور ضياء الدين الريس، ص125، ط السادسة)، فالخلافة حراسة وسياسة.
وقد كان النبي سياسياً بجوار كونه مبلغاً ومُعلماً وقاضياً، فقد كان هو رئيس الدولة وإمام الأمة، وكان خلفاؤه الراشدون والمهديون من بعده سياسيين على نهجه وطريقته، حيث ساسوا الأمة بالعدل والإحسان وقادوها بالعلم والإيمان.
ولكن الناس في عصرنا وفي أقطارنا خاصة، من كثرة ما عانوا من السياسة وأهلها –سواء كانت سياسة الاستعمار، أو سياسة الحكام الخونة، أو سياسة الحكام الظلمة– كرهوا السياسة وكل ما يتعلق بها، وخصوصاً بعد ما أصبحت فلسفة “ميكافيلي” هي المسيطرة على السياسة والمواجهة لها، حتى حكوا عن الشيخ محمد عبده أنه بعد ما ذاق من مكر السياسة وألاعيبها ما ذاق، قال كلمته الشهيرة: “أعوذ بالله من السياسة ومن ساس ويسوس وسائس ومسوس”!
ومن ثم استغل خصوم الفكر الإسلامي والحركة الإسلامية بغض الناس للسياسة وضيقهم بها ونفورهم منها ليصفوا الإسلام الشامل المتكامل الذي يدعو إليه الإسلاميون اليوم بأنه “الإسلام السياسي”!
ولقد أصبح من المألوف الآن وصف كل ما يتميز به المسلم الملتزم عن المسلم المتسبب بأنه سياسي، ويكفي هذا ذماً وتنفيراً منه.
ذهبت بعض الفتيات المسلمات المحجبات في بلد من بلاد المغرب العربي إلى شخصية لها منصبها الديني والسياسي يشكون إليه أن بعض الكليات تشترط عليهن لكي يُقبلهن فيها أن يخلعن الحجاب، وهن يستشفعن به في إعفائهن من هذا الشرط الذي يفرض عليهن كشف الرأس ولبس القصير، وهو ما حرم الله ورسوله، وما كان أشد دهشة هؤلاء الطالبات الملتزمات حين قال لهن الرجل المشفع: إن هذا الذي ترتدينه ليس مجرد حجاب إنه زي سياسي!
وقبله قال العلماني الأكبر في تونس: إنه زي طائفي!، وقال آخر عن صلاة العيد في الخلاء: إنها ليست سُنة، إنما هي صلاة سياسية!، والاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان: اعتكاف سياسي!، وقراءة الغزوات في كتاب مثل سيرة ابن هشام، أو إمتاع الأسماء، أو المغازي من صحيح البخاري؛ قراءة سياسية!، وقد تصبح تلاوة القرآن الكريم نفسه وخصوصاً سوراً معينة منه تلاوة سياسية!، ولم ننس عهداً كان من الأدلة التي تقوم ضد المهتمين فيه حفظ سورة “الأنفال” لأنها سورة جهاد، وفي عهد آخر سورة “آل عمران” لأنها تتحدث عن المحنة والصبر عليها والثبات فيها!، ومن هنا نرى أن الإسلام الذي يسميه هؤلاء المتغربون “الإسلام السياسي” هو الإسلام الصحيح الذي شرعه الله في كتابه وسُنته، وطبقه النبي الكريم وخلفاؤه الراشدون، والذي لا يقبل الله ديناً غيره.