في الثاني من سبتمبر 1997م، دعيت من قبل مجمع البحوث الإسلامية بلندن للمشاركة في مؤتمره العلمي الأول عن القدس، وإلقاء كلمة فيه بهذه المناسبة، فحضرت وقلت في بداية كلمتي:
في هذه السنة (1997م) تتزاحم ذكريات مهمة وبارزة تخص قضيتنا الأولى؛ قضية القدس وفلسطين.
في هذه السنة تمر ذكرى مرور قرن على عقد المؤتمر الصهيوني الأول في بازل بسويسرا برئاسة هرتزل عام 1897م، وظهور المؤسسة الصهيونية العالمية.
كما تمر ذكرى 80 عاماً على مرور «وعد بلفور» المشؤوم بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين (نوفمبر 1917م).
وكذلك ذكرى نصف قرن على قرار تقسيم فلسطين (1947م) الذي كان تمهيداً لقيام «إسرائيل» (1948م).
وأيضاً ذكرى مرور 30 عاماً على احتلال القدس والضفة الغربية وغزة عام 1967م بعد حرب الأيام الستة المعروفة في 5 يونيو 1967م.
وأخيراً ذكرى مرور 20 عاماً على زيارة الرئيس السادات إلى «إسرائيل» عام 1977م التي مثلت بداية الخلل في وحدة الموقف العربي تجاه الكيان الصهيوني.
ونحن الآن نجني ثمار هذه الأحداث المريرة، وأشد هذه الثمار مرارة محاولة «إسرائيل» تهويد القدس العربية الإسلامية، وفق تخطيط معلوم، ونهج مرسوم، وعلى مرأى ومسمع من أكثر من 250 مليوناً من العرب، ووراءهم أكثر من مليار من المسلمين، وعلى الرغم من قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، وبمساندة وتأييد من أمريكا.
ولا تزال «إسرائيل» تتابع حفرياتها تحت المسجد الأقصى، وتنشئ مدينة سياحية تحته، فيما زعموا، وقد سمعت في مؤتمر القدس المذكور من الأخ الشيخ رائد صلاح، رئيس بلدية أم الفحم في فلسطين المحتلة، رئيس الحركة الإسلامية هناك، أنه أتيح له الاطلاع على هذه الحفريات، ورأى المسجد الأقصى مهدداً بالانهيار في وقت غير بعيد.
وهذا يؤكد كل ما قلته وأعلنته مراراً من أن «إسرائيل» تعرف متى ينهار المسجد، وهي محددة له وقتاً معيناً، توقع فيه ذلك وتعلنه، وهي ستختار الوقت المناسب لهذا الفعل، بحيث يكون العرب والمسلمون مشغولين في هموم أخرى تلهيهم عن هذا الخطب الجسيم، أو تجعل احتجاجهم عليه مجرد صراخ لا يرد حقاً، ولا يقاوم باطلاً! ويكون العالم أيضاً مشغولاً بخطب آخر، قد تكون «إسرائيل» أو الصهيونية العالمية هي صانعة ومدبرته.
وهكذا تتعرض القدس العربية الإسلامية؛ مدينة المقدسات، وأرض النبوات، وبلد الإسراء والمعراج، ودار المسجد الأقصى، الذي بارك الله حوله، الذي هو عند كل مسلم بمنزلة سواد العين، وسويداء القلب.
تتعرض هذه المدينة للتهويد المبيت، والانتهاب المخطط، والالتهام المدبر، ويتعرض المسجد الإسلامي المعظم للخطر المؤكد، بما يقع تحته وحوله من حفريات مستمرة، تهدف في النهاية إلى إزالته، وإقامة هيكل اليهود المزعوم على أنقاضه.
الهدف واضح وصريح، والخطة معلومة، والعمل معلن، اتفق عليه اليهود جميعاً، أياً كان انتماؤهم واتجاههم؛ دينيين كانوا أم علمانيين، من حزب الليكود الصريح المتعجرف، أم من حزب العمل المناور المراوغ.
ومع هذا، ما زلنا نركض ونسابق الريح، سعياً إلى سلام بائس، لا يقيم لفلسطين دولة، ولا يعيد إليها مشرداً، ولا يرد إليها قدسها وعاصمتها، ومع هذا الغبن الفاحش، والظلم المبين، تركل «إسرائيل»، ويركل بنيامين نتنياهو السلام المزعوم بقدميه، رضي القتيل ولم يرض القاتل!
وهذا كلما تنازلنا عن حق مؤكد لنا، أصرت «إسرائيل» على باطل مدعى لها، وهي في كل يوم تأخذ منا ما تريد، ونحن لا نأخذ نقيراً ولا قطميراً، إلا وعوداً مزعومة، أشبه بما قال الشاعر:
كانت مواعيد عرقوب لها مثلاً وما مواعيدها إلا الأباطيل
فلا يغرنك ما منت وما عدت إن الأماني والأحلام تضليل
بل الواقع أن «إسرائيل» في عهد الليكود أمست تضن علينا حتى بالوعود، وإن كانت سراباً، فهي تتبجح بالرفض المطلق، ولا تخاف ولا تستحيي، وقد قال رسول الإسلام: «إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحيِ فاصنع ما شئت» (متفق عليه).
إن «إسرائيل» تستكبر وتبغى في الأرض بغير الحق، لأنها لم تجد من يردها ويوقفها عند حدها، فهي تريد سلاماً من منظورها هي، ووفق مصلحتها، وتبعاً لإستراتيجيتها التوسعية، وأطماعها الإقليمية، المتمثلة في «إسرائيل الكبرى» من الفرات إلى النيل، ومن الأرز إلى النخيل! ولكنها قد تخفي ذلك أو تسكت عنه في وقت ما، تبعاً لسياسة المراحل التي تجيدها «إسرائيل» من قديم.
ولقد ساعدت الظروف العالمية والإقليمية والمحلية القائمة اليوم «إسرائيل» على هذا التجبر والطغيان الذي نشهده، وتتمثل تلك الظروف في الاستسلام الفلسطيني، والعجز العربي، والوهن الإسلامي، والغياب العالمي، والتفرد والتحيز الأمريكي.
ولكن هل تضمن «إسرائيل» أن تبقى هذه الظروف المساعدة لها باقية إلى الأبد؟ وهل أخذت صكاً على القدر الأعلى أن تبقى الرياح في الاتجاه الذي تهوى؟
نحن بقراءة سنن الله في الكون، وقراءة التاريخ من قبل، واستقراء الواقع في عالمنا؛ نؤمن بأن الدنيا تتطور، وأن العالم من حولنا يتغير، بل يتغير بسرعة غير محسوبة ولا متوقعة، كما رأينا في انهيار الاتحاد السوفييتي، وفي ظهور الاتحاد الأوروبي، وفي ظهور قوى اقتصادية جديدة في العالم، وهو ما عبّر عنه الناس عندنا من قديم فقالوا: «دوام الحال من المحال»، وما عبر عنه القرآن في صورة سُنة كونية عامة، فقال: (وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) (آل عمران: 140)، قال ذلك في أعقاب غزوة «أُحد» التي انكسر فيها المسلمون في عصر النبوة، وقدموا فيها سبعين من أغلى شهدائهم، بعد انتصار مبين قبلها في غزوة «بدر».
____________________________
من كتاب «القدس قضية كل مسلم».