عُرف العلاَّمة د. يوسف القرضاوي بأنه أحد أبرز علماء المسلمين الأعلام الذين لا يترددون في مجانبة الباطل وأهله، والصدع بكلمة الحق، فقد دافع منذ وقت مبكر في حياته –ولا يزال– عن المنهج الإسلامي الشامل باعتباره منهجاً ينظم شؤون الحياة جميعاً بين الأفراد والأسر والمجتمعات والدول، ولما لهذا المنهج من سمات تجمع بين السعادة في الدارين الدنيا والآخرة، وتوازن بين الثوابت والمتغيرات، وتدعو إلى احترام العقل وتجديد الفكر والاجتهاد في الدين والابتكار في الحياة والاقتباس من أنظمة العصر أفضل ما فيها.
في هذا الإطار، تأتي دراسته القيمة التي صدرت عن دار الشروق بالقاهرة “من فقه الدولة في الإسلام.. مكانتها.. طبيعتها.. موقفها من الديمقراطية والتعددية والمرأة وغير المسلمين”، خطوة للرد على بعض الشبهات المثارة ضد الدولة الإسلامية من دعاة الفصل بين الدين والدولة، ولتحديد إذا ما كانت الدولة الإسلامية مدنية ملتزمة بالإسلام أم دولة ثيوقراطية كهنوتية؟
مكانة الدولة في الإسلام
يؤكد المؤلف في بداية هذا الفصل نجاح الاستعمار في غرس فكرة مؤداها أن الإسلام دين لا دولة، وأن الدين لا مكان له في توجيه الدولة وتنظيمها، ويؤكد المؤلف شمول الإسلام، واحتواءه واهتمامه بجانب الدولة وتنظيمها وتوجيهها بأحكامه وآدابه، ويبرز الأدلة على ذلك من نصوص القرآن والسُّنة، ففي سورة “النساء” يقول الله عز وجل: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً {58} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء).
فالخطاب في الآية للولاة والحكام أن يراعوا الأمانات، ويحكموا بالعدل، وفي الآية الثانية على الرعية المؤمنين أن يطيعوا أولى الأمر، وجعل هذه الطاعة بعد طاعة الله وطاعة الرسول، وأمر عند التنازع برد الخلاف إلى الله ورسوله؛ أي الكتاب والسُّنة، وهذا يفترض أن يكون للمسلمين دولة تهيمن وتطاع، وإلا لكان هذا الأمر عبثاً.
والتاريخ يحدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سعى بكل ما استطاع من قوة إلى إقامة دولة الإسلام، ولم تكن الهجرة إلى المدينة إلا سعياً لإقامة المجتمع المسلم الذي تشرف عليه دولة مسلمة.
وكانت المدينة هي قاعدة الدولة الإسلامية الجديدة التي يرأسها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو قائد المسلمين وإمامهم، كما أنه نبيهم ورسول الله إليهم، وعند وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أول ما شغل أصحابه هو أن يختاروا إماماً لهم، حتى إنهم قدموا ذلك على دفنه صلى الله عليه وسلم فبادروا إلى بيعة أبي بكر.
ويقدم المؤلف دليلاً آخر على أهمية الدولة في الإسلام من طبيعة الإسلام نفسه ورسالته، فهو دين عام وشريعة شاملة تتغلغل في جميع نواحي الحياة، ولا يتصور أن تهمل شأن الدولة وتدعها للمتحللين والملحدين يديرونها تبعاً للهوى.
كما أن الدين الإسلامي يدعو للتنظيم وتحديد المسؤولية، ويكره الاضطراب والفوضى في كل شيء، حتى إن رسول الله يأمرنا في الصلاة أن تسوَّى الصفوف، وأن يؤمنا أعلمنا، وفي السفر يقول: “أمِّروا عليكم أحدكم”.
ويؤكد المؤلف أن نصوص الإسلام لو لم تجئ صراحة بوجوب إقامة دولة الإسلام، ولو لم يجئ تاريخ الرسول وأصحابه تطبيقاً عملياً لما دعت إليه هذه النصوص، لكانت طبيعة الرسالة الإسلامية نفسها تحث أن تقوم للإسلام دولة يتميز فيها بعقائده وشعائره وتعاليمه، ومفاهيمه، وأخلاقه وتشريعاته.
إن دولة الإسلام دولة تقوم على عقيدة ومنهج، وليست مجرد جهاز أمن يحفظ الأمة من الاعتداء الداخلي، أو الغزو الخارجي، بل وظيفتها أعمق من ذلك وأكبر، وظيفتها تعليم الأمة وتربيتها على مبادئ وتعاليم الإسلام، وتهيئة الجو لتحول عقائد الإسلام وتعاليمه إلى واقع عملي، وهذه الدولة ليست ذات صفة محلية، لكنها دولة ذات رسالة عالمية.
ويشير المؤلف في ختام هذا الفصل إلى شمول الإسلام لكل مناحي الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فضلاً عن الدينية، ويذكر مقتطفات من أقوال علماء الإسلام تؤكد ذلك، بالإضافة إلى مقتطفات من أقوال بعض المستشرقين، مثل “شاخت” الذي يقول: “إن الإسلام أكثر من دين، إنه يمثل أيضاً نظريات قانونية وسياسية، فهو نظام كامل من الثقافة يشمل الدين والدولة معاً”، ويذكر “نالينو”: “لقد أسس محمد في وقت واحد ديناً ودولة، وكانت حدودها متطابقة طوال حياته”.
ويقول “ماكدونالد”: “في المدينة تكونت الدولة الإسلامية الأولى، ووضعت المبادئ الأساسية للقانون الإسلامي”.
معالم الدولة التي يبنيها الإسلام
يسعى الإسلام إلى بناء الفرد والأسرة والمجتمع الصالح، كذلك يسعى لبناء الدولة الصالحة، وهي دولة متميزة عن كل الدول بأهدافها ومناهجها ومقوماتها وخصائصها، فهي تتميز بالآتي:
– أنها دولة مدنية مرجعها الإسلام، فهي ليست دولة دينية تتحكم في رقاب الناس باسم الحق الإلهي، وليست دولة كهنة، أو رجال دين يزعمون أنهم يمثلون إرادة الخالق، بل هي دولة مدنية تحكم بالإسلام، وتقوم على البيعة والشورى، ويختار رجالها من كل قوي أمين حفيظ عليم، فمن فقَدَ هذه الشروط لا يصلح أن يكون من أهلها.
– وهي ليست دولة علمانية، سواء تمثلت علمانيتها في إنكار الدين، أم في فصل الدين عن الدولة وعزله عن التأثير في الحياة والمجتمع، بل هي دول مدنية تقيم في الأرض أحكام السماء، وتحفظ بين الناس أوامر الله ونواهيه.
– هي دولة عالمية، فهي ليست دولة عنصرية ولا إقليمية، بل هي في الأصل دولة مفتوحة لكل مؤمن بمبادئها باختياره الحر، بلا ضغط ولا إكراه، دولة عالمية؛ لأن رسالتها عالمية تذوب فيها فوارق الأجناس والأوطان، حيث يوجد بينهم الإيمان بإله واحد، ورسول واحد، وكتاب واحد.
– دولة شرعية دستورية، ودستورها يتمثل في المبادئ والأحكام الشرعية التي جاء بها القرآن الكريم وبيَّنتها السُّنة النبوية في العقائد والعبادات والأخلاق والمعاملات، وأن الالتزام من الدولة بقانون الشريعة هو الذي يعطيها الشرعية، ويجعل لها حق المعاونة والطاعة من الشعب في العسر واليسر.
– دولة هداية لا جباية؛ أي أن أكبر همها هو نشر دعوتها في العالمين، وتوصيل رسالتها إلى كل مكان، فهي رحمة الله إلى الناس كافة.
– دولة لحماية الضعفاء، لا حماية مصالح الأقوياء؛ فهي تفرض الزكاة، وتأخذها من الأغنياء لتردها على الفقراء، كما تفرض في موارد الدولة الأخرى كالفيء وغيرها نصيباً مؤكداً لليتامى والمساكين وابن السبيل، كما وضع الإسلام خطة لتحرير الرقيق بالتدريج.
– دولة الحقوق والحريات، فحق الحياة، وحق التملك، وحق الكفاية من العيش، وحق الأمن على الدين والنفس والعرض والمال والنسل يعتبر من الضروريات في نظر التشريع الإسلامي، ولقد أوجب الشارع العقوبات الرادعة من الحدود والقصاص لحمايتها من العدوان عليها.
– دولة المبادئ وأخلاق تلتئم بها ولا تحيد عنها في داخل أرضها أو خارجها، مع من تحب ومع من تكره، في سلمها وحربها؛ فهي لا تتعامل بوجهين، ولا تتكلم بلسانين، ولا تقبل أن تصل إلى الحق بطريق الباطل، ولا أن تحقق الخير بوسائل الشر، فهي تؤمن بالغاية الشريفة والوسيلة النبيلة النظيفة معاً، وهي توجب الوفاء مع كل البشر محبين وكارهين، وتوجب الأمانة مع كل البشر وإن بدؤوا بالخيانة، فالفضيلة لا تختلف باختلاف الناس، وكذلك الرذيلة، تلك هي بعض معالم الدولة الإسلامية كما أوصى بها الإسلام.
طبيعة الدولة
يؤكد المؤلف أن هناك فارقاً كبيراً بين الدولة الإسلامية والدولة الدينية، فالدولة الإسلامية تقوم على أساس الإسلام وتعاليمه، فالإسلام أوسع وأكبر من كلمة دين، والدين أحد الضرورات الخمس التي جاءت الشريعة لحفظها، أما الدولة الدينية فهي التي عرفها الغرب النصراني في العصور الوسطى.
إن الدولة الإسلامية دولة مدنية، تقوم على أساس الاختيار والبيعة والشورى ومسؤولية الحاكم، وحق كل فرد في الرعية أن ينصح الحاكم.
ويتساءل المؤلف: علام استند العلمانيون في اتهامهم للإسلاميين بالدعوة إلى إقامة دولة دينية تقوم على الحق الإلهي؟ ويجيب عن ذلك بالآتي:
– إنه تأمل ما كتبوه فوجد أنه يدور حول شبهات محدودة؛ وهي أولاً: فكرة الحاكمية، ومؤداها أن الحكم لله تعالى، وليس لأحد من البشر، وثانياً: كلمة قالها عثمان رضي الله عنه في حصاره: “لا والله لن أنزع رداء سربلنيه الله”؛ أي أن الله هو الذي يولي الخليفة، فلا حق للرعية في نزع الإمام، والثالث: كلمة قالها أبو جعفر المنصور: “إنما أنا سلطان الله في أرضه”، ورابعاً: تجربة الثورة الإيرانية، حيث يقوم الحكم فيها على رجال الدين.
ويرد المؤلف على هذه الشبهات بالآتي:
أولاً: فكرة الحاكمية التي زعم الزاعمون أنها لا تأتي إلا بدولة دينية؛ تعني الحاكمية التشريعية فقط، أما سند السلطة السياسي فمرجعه الأمة التي تختار حكامها وتحاسبهم وتراجعهم، فليس معنى الحاكمية الدعوة إلى دولة دينية.
ثانياً: عثمان رضي الله عنه لم يزعم يوماً أنه يحكم بحق إلهي، بل إنه في مقولته تلك قصد ألا تصبح الخلافة ألعوبة في يد الطائشين الذين تحركهم قوة خفية، ولهذا أبى أن ينزع قميص الخلافة، ويترك أمة محمد يعدو بعضها على بعض، ويولي السفهاء من يختارون هم، فيقع الهرج ويفسد الأمر.
ثالثاً: بالنسبة لكلمة المنصور، معناها أنه يمثل شرع الله في الأرض، وتنفيذ حكمه في خلقه، ولا تعني أن معه حقاً إلهياً يحكم به.
رابعاً: وبالنسبة لتجربة الثورة الإيرانية، فإن الاستدلال بها استدلال منقوص من عدة نواح، حيث إن الحكم في المذهب الإيراني الشيعي مخالف له عند أهل السُّنة، وهم جمهور المسلمين، والخط الشيعي مخالف للفكر الإسلامي في مجال العقيدة ومجال الفقه، فالإمامة عندهم من مسائل العقيدة والأصول، وعند أهل السُّنة من مسائل العمل والفروع، والإمام عندهم معصوم، وعند أهل السُّنة بشر من الناس يخطئ ويصيب، والإمام عندهم لا يُعزل لأن أحداً لم يوله حتى يعزله، والأمة عند أهل السُّنة هي التي تملك حق تولية الإمام وتملك عزله.. وعلى هذا؛ فإن التجربة الإيرانية –نظراً لطبعتها الخاصة– تظل لها خصوصيتها التي لا يقاس عليها، ولا يجوز أن يُحتج بها على أهل السُّنة.
ويذكر المؤلف في ختام هذا الفصل أن هناك ملفات يجب أن تغلق حتى نوفر وقتنا وجهدنا لقضايا أخرى تتطلب الكثير من البحث الجاد، من هذه الملفات ملف الدولة الدينية، وأن الإسلام يدعو لسلطة دينية بالمعنى الكهنوتي الذي عرفه المجتمع الغربي، بل يدعو إلى سلطة إسلامية، بمعنى أنها سلطة مدنية تختارها الأمة، وتعتمد المرجعية الإسلامية في تشريعها وتوجيهها وسياستها الداخلية والخارجية.
كذلك ملف العلمانية اللادينية؛ أي ملف العلمانية التي تفصل الدين عن الحياة والمجتمع، فقد نشأت هذه العلمانية في أرض غير أرضنا، وقوم غير قومنا؛ لظروف لا نظير لها عندنا، والعلمانية عندنا هي ضد الدين وضد فكر الأمة وضد مصلحتها، وهي تجرد الأمة من طاقات هائلة كانت يمكن أن تفجرها العقيدة والشريعة لو كانت العقيدة هي الموجهة والشريعة هي الحاكمة.
نحو فقه سياسي رشيد
يبدأ المؤلف بإبراز بعض الظواهر الفكرية السلبية، مثل الفقه الظاهري الذي يقف عند حرفية النصوص، ولا ينفذ إلى مقاصد الشرع، ولا يهتم بمصالح الخلق، وأنه لن يكون للحركة الإسلامية فقه سياسي راشد ناضج إلا إذا تجاوزت هذه الظواهر السلبية، وتمسكت بفقه جديد يركز على فقه السُّنن وفقه المقاصد وفقه الموازنات والأولويات وفقه الاختلاف، وأنه لا بد من معالجة أي خلل في الفقه السياسي، وهو فقه لم يأخذ حقه من البحث والتعميق قديماً كما أخذ فقه العبادات والمعاملات.
ويلفت المؤلف النظر إلى بعض العبارات التي شاعت على ألسنة وأقلام بعض العلمانيين والمتغربين، ومن هذه التعبيرات تعبير “الإسلام السياسي”، ويعنون به الإسلام الذي يعنى بشؤون الأمة الإسلامية وعلاقتها في الداخل والخارج، وهم يطلقون هذه الكلمة للتنفير من مضمونها، ومن الدعاة الصادقين الذين يدعون إلى الإسلام الشامل باعتباره عقيدة وشريعة وديناً ودولة.
وينبه المؤلف إلى أن هذه التسمية مرفوضة؛ لأنها تطبيق لخطة وضعها خصوم الإسلام تقوم على تجزئة الإسلام وتفتيته بحسب تقسيمات مختلفة، فليس هو الإسلام واحداً كما أنزله الله، بل هو “إسلامات” متعددة، كما يحب هؤلاء، فهو ينقسم حسب الأقاليم؛ فهناك إسلام آسيوي وإسلام أفريقي.. وينقسم حسب العصور؛ فهناك الإسلام النبوي والإسلام الراشدي.. إلخ، وأحياناً حسب المذهب؛ فهناك الإسلام السُّني، والإسلام الشيعي، وهناك أيضاً الإسلام السياسي، والإسلام الأصولي، والإسلام الروحي، والإسلام الزمنيّ!
الأول: أن للإسلام موقفاً واضحاً وحكماً صريحاً في كثير من الأمور التي تعتبر من صلب السياسة، فالإسلام عقيدة وعبادة وشريعة متكاملة، ومنهاج كامل للحياة بما وضع من مبادئ وما سنَّ من تشريعات متصلة بحياة الفرد وشؤون الأسرة وأوضاع المجتمع وأسس الدولة وعلاقات العالم.
والسبب الثاني: أن شخصية المسلم لا يمكن إلا أن تكون سياسية، حيث يضع الإسلام في عنق كل مسلم فريضة هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد يعبر عنها بعنوان “النصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم”، وقد يعبر عنها بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر، وعناية المسلم بالشأن العام لأمته هو ما يسمى الآن “السياسة”.
ومما يجعل المسلم سياسياً دائماً أنه مطالب –بمقتضى إيمانه– ألا يعيش لنفسه وحدها دون اهتمام بمشكلات الآخرين وهمومهم، وخصوصاً المؤمنين منهم، بحكم أخوة الإيمان، وفي الحديث: “من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، ومن لم يصبح ناصحاً لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم فليس منهم، وأيما أهل حي بات منهم امرؤ جائعاً فقد برئت منهم ذمة الله وذمة رسوله”.
كما أن المسلم مطالب بمقاومة الظلم الاجتماعي والسياسي وكل ظلم أياً كان اسمه ونوعه، فالسكوت على الظلم يوجب العذاب.
ويحمل الإسلام كل مسلم مسؤولية سياسية؛ أن يعيش في دولة يقودها إمام مسلم يحكم بكتاب الله، ويبايعه الناس على ذلك، وإلا التحق بأهل الجاهلية، ففي الحديث: “من مات وليس في عنقه بيعة لإمام مات ميتة جاهلية”، وهذه هي طبيعة الإسلام، لا ينعزل فيه دين عن دنيا، ولا يعرف قرآنه ولا تاريخه ديناً بلا دولة ولا دولة بلا دين.
ويلفت المؤلف النظر إلى وجود بعض الأقاويل حول وجوب الحكم بما أنزل الله على المسلمين، فالبعض يقول: إن الحكم المقصود في قوله تعالى: (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ) (المائدة: 49) هو الحكم بين أهل الكتاب من غير المسلمين، لا الحكم بين المسلمين، وقال البعض الآخر: إنه يراد به الفصل في الخصومات ومواضع النزاع، وهو عمل القضاة، وليس المراد به الحكم بمعنى التصرف السياسي أو التشريعي الذي تقوم به السلطات التنفيذية، أو السلطات التشريعية، مثل المجالس النيابية التي لها صلاحية وضع القوانين أو تعديلها.
ويرد المؤلف على هذه الشبهات بأن هناك الكثير من الآيات في القرآن الكريم توضح أن الإذعان لحكم الله ورسله جزء لا يتجزأ من الإيمان، وإنه لا خيرة لمؤمن ولا مؤمنة أمام ما قضى الله ورسوله، وقد أقسم على نفي الإيمان عن كل من لم يحكّم رسول الله، مع الرضا والقبول والتسليم كل التسليم، كما أن آيات سورة “المائدة” التي دمغت من لم يحكم بما أنزل الله بالكفر والظلم والفسوق آيات صريحة الدلالة.
العبرة بعموم اللفظ
والذين قالوا: إن الآيات نزلت في أهل الكتاب من اليهود والنصارى لا يعنون أن الحكم بما أنزل الله في القرآن ليس بواجب على المسلمين، بل هو واجب على المسلمين أيضاً، فالعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب.
وأما من قال: إن لفظ الحكم جاء في القرآن بمعنى القضاء الفصل بين الناس فيما يتنازعون فيه من قضايا، ولا علاقة له بالجانب السياسي أو الإداري أو التشريعي، فهذا ادعاء لا يسلم به على إطلاقه، فمن يقرأ آيات سورة “المائدة” يجد فيها ما يشمل القضاء والتشريع والإدارة والسياسة ونحوها، وضرورة التزام الأفراد والرؤساء بالحكم بما أنزل الله في مثل هذه الأمور.
ويؤكد المؤلف أن الحكم بغير ما أنزل الله –وإن لم يكن كفراً مخرجاً من الملة لعدم جحود الحاكمين وإنكارهم لشرع الله– هو بالقطع حكم مخالف للإسلام، وحسب صاحبه أنه رضي لنفسه أن يكون ظالماً وفاسقاً، وهو فسق وظلم دائمان بدوام الحكم بغير ما أنزل الله، ولهذا كان بقاء هذا الحكم منكراً، وكان السكوت عليه منكراً، وكانت معارضته ومجاهدته واجبة، ويتعين على أهل الحل والعقد تغييره بالوسائل الدستورية وغيرها، بشرط الاستطاعة، وألا يؤدي إلى فتنة أكبر ومنكر أعظم.
كما يؤكد المؤلف أن الاستسلام لهذا الواقع المخالف للإسلام لا يجوز، بل يجب العمل على تغييره بالطرق المشروعة عن طريق الدعوة والتثقيف والتربية والتكوين، حتى يتغير ما بأنفس القوم، فيغير الله ما بهم.
__________________________________________________
العدد (1294)، 3 ذو الحجة 1418هـ / 31 مارس 1998م، ص46-48.