من يتأمل مشهد الحجيج إلى بيت الله الحرام وهم بلباس واحد، ويتحركون من منسك إلى منسك إلى وجهة واحدة، ويرددون بصوت واحد، وبلغة واحدة، دعاءً واحداً: «لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك.. إن الحمد والنعمة لك والملك.. لا شريك لك»، يدرك إلى أي مدى يرسخ الإسلام معنى الوحدة في حياة المسلمين، ويذكرهم ويدربهم عليها في عباداتهم، من صلاة، وصيام، وحج.. إنه لمشهد حي يجسد معنى الأمة الواحدة، دستورها القرآن، وشريعتها الإسلام، وقدوتها سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء: 92).
وإن هذه الوحدة التي عقد الله تعالى أواصرها بين القلوب المؤمنة هي منحة ربانية لا يمكن لأحد أن يعقد لواءها ولو أنفق ما في الأرض جميعاً، وصدق الله العظيم: (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (الأنفال: 63)، ولن يبلغ المسلمون هذه المكانة الكبيرة من الوحدة إلا باتباع منهج الله سبحانه ونبذ كل ما يفرق صفهم: (وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (الأنعام: 153).
وبعودة الأمة الصادقة؛ حكاماً ومحكومين، إلى الله سبحانه وتعالى بتطبيق شرعه، مع الثقة المطلقة فيه تعالى، ومع العمل على تربية النفوس على قيم الإسلام ومبادئه، وتوطينها على مخالفة الهوى والإقلاع عن السلبية، والاستمساك بالهوية في مواجهة الذوبان والانجراف في المشاريع التغريبية التي تسعى لخلع الأمة وشبابها من عقيدتها.. بكل ذلك تتحقق معاني الوحدة، ويتوحد الصف المسلم ذو البنيان المرصوص الذي يصمد في مواجهة محاولات تفتيت الأمة وتفريق صفها أمام موجات التغريب والانحلال وتضييع الهوية.
إن ائتلاف القلوب والمشاعر واتحاد الغايات والوسائل من أوضح توجيهات الإسلام، وإن كانت كلمة التوحيد باب الإسلام، فإن توحيد الكلمة والتعاون من أجلها سر البقاء والنجاح والعزة.
ولأن الحج طريق إلى الوحدة فهو عبادة جماعية لم تُفرض في الإسلام إلا بعد أن بدأت تظهر الدولة الإسلامية وتتضح معالمها وتبرز قوتها؛ فقد قيل: إنها فرضت سنة ست من الهجرة عام الحديبية؛ أي بعد أن أصبح المسلمون نداً لقريش؛ واستكمل بنيان الدولة، وقيل: فرضت سنة تسع أو عشر من الهجرة، وكل هذا يعني أنها لم تفرض إلا بعد أن قوي المسلمون، وأصبح لهم شوكة، وهذه الشوكة لا تكون إلا بعد أن تم الاتحاد تحت راية النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فجاء الحج ليجسد هذه المعاني.
إن من دروس الحج العظيمة التضحية والفداء والجهاد، فالحج بمناسكه جهاد، كما أن الانتقال فيه من منسك إلى منسك يحيي مشاهد تضحية خليل الله إبراهيم بابنه إسماعيل عليهما السلام الذي حفر في التاريخ درساً بليغاً في الطاعة لله تعالى ثم لوالده.
وإن هذه الدروس جميعاً التي يجسدها الحج إلى بيت الله الحرام كل عام تؤكد أن الأمة الإسلامية تمتلك إمكانات هائلة لاستعادة قوتها ووحدة صفها، إن عادت إلى الله سبحانه عودة صادقة، واستعادت ثقتها بنفسها، ونفضت عن كاهلها عوامل الضعف والتفرق، ورعى حكامها حقوق شعوبهم في الحرية، والحياة الكريمة، ويوم تعي الأمة هذه الرسالة جيداً تكون قد وضعت أقدامها على طريق النهوض والتقدم وبناء المستقبل.