«هناك من يستيقظ صباحاً ليغسل وجهه، وهناك من يستيقظ صباحاً ليغسل كليته»، هذا واقع في حياتنا، يعاني منه البعض، ويعايشه آخرون، ليعلم المرء أنه في نعمة لا تعد ولا تحصى، وقد جاءت كلمة «نعمة» مفردة في قوله عز وجل: (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا) (إبراهيم: 34)، في إشارة إلى أن النعمة الواحدة تغص بما لا حصر له من النعم.
لكن تسارع الحياة وتكالبها تحت وطأة عالم يعج بالماديات والشهوات، ويبتعد رويداً رويداً عن القيم والروحانيات، يجعل من الرضا أمراً بعيد المنال، ونعمة لا يتذوق حلاوتها إلا من أيقن بها، وسعى إليها، وعمل بها.
حينما تتدبر حالك، ويتيقن قلبك بفناء هذه الدنيا، سيصغر أمام عينيك كل عظيم من أمور الشهوة والزينة، لتصل إلى حالة من الصفاء الروحاني، والإدراك القلبي، بأن الرضا النفسي من أعظم نعم الله.
لو خُير الناس بين انتقاء البلاء، أو تبادل الابتلاءات، لرضي كل منهم بما قُدر له من بلاء الدنيا، غير ساخط أو قانط، موقناً أن (اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ) (الشورى: 19)، ساعياً إلى الدخول في زمرة (وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) (سبأ: 13)، آملاً أن يكون ممن يقال لهم: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (البقرة: 155).
كثيراً ما نُلح على الله تعالى في الدعاء؛ أملاً في الفوز بعطاياه في الدنيا والآخرة، وكثيراً ما نتضرع إليه سبحانه وتعالى؛ رغبة في إجابة الدعاء، ونيل عفوه ومغفرته، والفوز بكرمه وجوده، لكن الرضا يجعل الداعي في مرتبة أسمى حينما يناجي مولاه، طمعاً في رضاه ومحبته، لا في عطاياه فقط.
لا تعبدوه حتى يعطي، بل اعبدوه حتى يرضى، فإذا رضي أدهشكم بعطائه، وزادكم من فضله؛ (لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ) (إبراهيم: 7)، وما أدراكم بزيادة الله عز وجل، لا حدود لها، إنه هو الذي يضاعف الحسنة إلى عشرة أمثالها، والنفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف، وذرة الخير كأنها مثل جبل أُحد، وما أدراك ما جبل أُحد، إنه جبل يحبنا ونحبه، كما قال صلى الله عليه وسلم.
إن الصراف الآلي، أو الصراف البشري، يصرف لك من النقود، مبلغاً مالياً، كل شهر، مصحوباً بالحوافز والمكافآت والبدلات وغيره، لكن الرحمن الرحيم، ولله المثل الأعلى، يصرف عنك السوء والفحشاء، يدفع عنك الهم والغم، ويزيح عنك الحزن والكرب، ويرفع عنك الداء والبلاء.
من الذي يملك أن يدفع عنك مصائب الدنيا، أو نوائب الدهر، أو زلات القدر؟ من بيده ملكوت السماوات والأرض، من يدبر الأمر من السماء إلى الأرض؟ (وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ) (يونس: 107).
إن الرضا نعمة لا تقدر بثمن، ولا يعثر عليها سوى مخلص، ولا ينالها سوى حكيم، يعلم قدر الأمر، فيجتهد نحو تلمسه، والقرب منه، والتترس به، والتلذذ بحلاوته، يستيقظ راضياً، ويبيت راضياً، فيربح الجائزة الكبرى؛ (سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ) (محمد: 5).
نعم، سيصلح بالهم، وما أدراك ما صلاح البال، إنها النعمة العظيمة التي يفتقدها الملوك والرؤساء، إنها المراد الذي لا يجده الجبابرة والطواغيت، إنها اللذة التي لا يمتلكها أصحاب المال والثراء، إنها الغاية التي يبحث عنها النجوم والمشاهير، لكن الله حصرها لفئة من عباده، فكن منهم.
يمكن أن تربح هذه الجائزة، وأن تبلغ تلك المنزلة، بأن تحقق معنى الرضا في فؤادك، وعقلك، ونفسك، تعبد الله حتى يرضى، وتبكي بين يديه إذا رضي، ويبتهل لسانك بعد الرضا، وتستقيم جوارحك أبداً أبداً، وتحمده كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه.
أحضر ورقة، واكتب فيها ما لديك من نِعَم، أو سجِّل على آلتك الحاسبة ما تمتلكه من عطايا ومنح من المُنعم، وضع لها كلفة مادية بموازين اليوم، بل اذهب إلى أكبر المكاتب المحاسبية، والبنوك الاستثمارية؛ لتحصي ما في حوزتك من نِعَم، والله ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
لا تحصر النعم فقط في أوراق البنكنوت، أو في الدنانير والريالات والدولارات التي يمتلئ بها جيبك أو حسابك المصرفي، بل فكر بعيداً خارج الصندوق، فيما تمتلكه من جوارح، ومفاصل، وغيره، كم يساوي المفصل الواحد؟ كم يصل ثمن البصر فقط! بكم تبلغ قيمة اللسان! بكم تعادل اليد أو القدم! ما قيمة سهم المخ فقط في بورصات العالم؟!
تعلّم الرضا، وتلمّس معانيه، وتدرّب على اقتنائه، وداوم عليه، اروِ غرسه، ونمِّ شجرته، وتيقن من حصاده؛ ستجنِ كل الخير في الدنيا والآخرة، ستربح راحة البال، أصلح الله بالكم.