نناقش في هذه الحلقة من رؤية العلامة منى أبو الفضل (ت 2008م) متطلبات تأهل الباحث الاجتماعي الواعي للتعامل مع القرآن الكريم، والعوامل التي تسهم في التأهل الفكري للباحث في المجال القرآني الذي ينتظر منه التنظير المعرفي لمجال تخصصه الاجتماعي من القرآن الكريم.
واستخلصنا في ذلك عددًا من متطلبات التأهل، أهمها ما يلي:
أولًا: الثقافة الإسلامية العامة: فحوى هذا المطلب أنه لا يمكن للمتخصص في أحد مجالات العلوم الاجتماعية الحديثة أن يرقى إلى مستوى التنظير في مجال تخصصه من المنظور القرآني دون أن يكون له قدر من الإلمام بالثقافة الإسلامية، ويمكن أن تتحصل له هذه القاعدة المعرفية من خلال اطلاعه على أعمال أهل النظر في هذا المجال.
ثانيًا: لا بد أن يستقر في وجدان الباحث الاجتماعي حقيقة المعادلة الفكرية التي يقدمها القرآن والفرق بينها وبين المعادلات الفكرية الوضعية المندرسة أو القائمة للخلاف الواسع بينهما، فهي ليست المعادلة السياسية كما في الفكر الليبرالي التي تضع الحريات السياسية في صورة النظام الديمقراطي الليبرالي كقيمة أسمى للمجتمع، ثم تشتق منه فكرة الاقتصادي في صورة الاقتصاد الرأسمالي الحر، كما أنها ليست المعادلة الاقتصادية التي قدمها الفكر الاشتراكي والماركسي المنهار، التي تضع الصراع الطبقي باعتباره المحرك الأول للعملية الاجتماعية والتاريخية، وبالتالي تضع صراع طبقات المجتمع مع بعضها بعضاً وقضاء البروليتاريا على البرجوازية كقيمة أسمى للمجتمع، فكل ذلك من حتميات ثبت أنها هراء.
إن المعادلة الفكرية التي يقدمها القرآن تبني تصورًا شاملًا ومترابطًا للفرد والمجتمع والأمة تقوم بصياغة علاقاتها الاجتماعية باعتبارها دعامة أولية في بنائها العام، ثم تستخرج من داخل النموذج القرآني قواعد التكامل؛ كقاعدة اقتصادية تقوم عليها عمليات الأنماء العمراني.
إن المعنى المعرفي والدلالي بعملية بناء الأمم هو ذلك البناء الذي يقوم على تكافل عناصر المجتمع الإنساني باعتبارهم أسرة كبرى ممتدة، تعيش في بيت مشترك هو الأرض، تستظل بقيم مشتركة هي التوحيد والتزكية والعمران، وتتحرك وفق قواعد مشتركة منبثقة عنها، ومنها قواعد التفكير المشترك.
ثالثًا: يأتي الوعي بالقيم العليا للقرآن: إن المرجعية القرآنية التي ينطلق منها الباحث بشأن الواقع العمراني تتخذ من التوحيد والعمران والتزكية قيماً علياً، فالعمارة والعبادة بهذا وجهان لعملة واحدة، إذا كان المنهج العلمي الحديث يقتصر في دراسته على الظواهر وهو ما نسميه بالبرانيات، فإنه لا بد أن نوحد النموذج والنسق التوحيدي الذي يمكننا من التعامل مع ما دون ذلك وما وراءه من كوامن ومطلقات تؤطر للدوافع والأوجه عند تقويم الوقائع بشأن الحراك العمراني، وبالتالي فإنه لا بد من إعادة النظر في مفهوم الظاهرة الاجتماعية وتقويمها، بحيث نكون إزاء منهاج يستطيع أن يتعامل مع الجوانيات التي تؤسس السببية في توالي الظواهر وتعاقب الأحداث.
رابعًا: استيعاب حيوية الخطاب القرآني: يُطَالَب الباحث الاجتماعي أن يقف على طبيعة الخطاب القرآني، لاستخلاص الأصول المعرفية والمنهجية لتخصصه، إن منهاجية تتعامل مع المصدر المنشئ للتنظير الإسلامي لا بد أن تعي وتستوعب أبعاد الحيوية التي تميز الخطان القرآني، وحتى لا تولد المنهاجية ميتة أو جامدة فعليها أن تستأنس بطبيعة ومنحى المصدر المنشئ، وبروح العالم المتعبد المفتقر إلى بصائر النور المبين، ولسنا ملزمين بالوسائط التراثية الكثيفة، ولا بالمدخلات العصرية المريبة، ومن طرف آخر ومكمل، فإن المنهاجية التي تستلهم مصادرها التي نقصدها، لن تخرج لنا وقد حققت شرط التكافؤ الذي تقتضيه كل منهاجية ناجحة، وإنما سوف تخرج لنا وقد استوفت أبعاد الاستواء والإحاطة التي تمكنها من قدر حيوية التفاعل مع عناصرها كافة.
خامسًا: التعامل من موقع الافتقار المنهجي في ميدان التخصص: إن من يتعامل مع القرآن الكريم من موقع التخصص –المفتقر إلى بناء أصول علمه على كتاب منزل من لدن عليم حكيم– لا يسعه إلا أن يبحث في مستويين: الأول: على أساس أن يبين ما بين المعنى والمبني فيه من اتساق وتلاحم، فإذا أراد التعمق في مقصده المعنوي فعليه أن يستوعب – قدر استطاعته – أبعاد مقصده في النسق القرآني جملة، وليس في الوقوف على الجزيئات فقط.
والمستوى الثاني: أن نبحث في القرآن لا على الأحكام الفقهية كما منهج (علماء الفقه)، ولكن عن قواعد وأصول تنشئة الأمة –حيث الأحكام هي أحد أبعاد البنيان– تدعمه وتقيم سياجه بعد التأسيس وإقامة الدعائم والأركان؛ أي تبني النظرة الكلية للخطاب القرآني والانطلاق من الوحدة الموضوعية إلى الوحدة البنائية في التعامل مع القرآن الكريم في مجالات تخصصاتنا الاجتماعية.
سادسًا: الالتزام بالأسلوب القرآني في النظر إلى الظاهرة الاجتماعية: من الدلالات العلمية لإدراك حيوية وكلية الخطاب القرآني هو أن الأصول المنهجية للتعامل مع مصادر التنظير الإسلامي لا بد أن تعتبر بهذا المعنى في أسلوب البيان القرآني، فإن كان هناك موضع للتميز بين تنوع جوانب ومصادر السلوك الإنساني والسلوكيات في المجتمع؛ فإن علينا أن نتعامل مع الإنسان في وحدته المتضمنة لأبعاده المتنوعة، وأن تنطلق مناهجنا في التعامل مع الظواهر الاجتماعية من تلك القاعدة التي توفر لها أوسع قدر من التكامل الممكن أوسعه الأفق.
والوجه الآخر لهذه الملاحظة أن علينا أن نتعامل بكثير من التحفظ مع المناهج المتداولة في مجال التخصص –ليس فقط فيما يتنافى مع الأصول المعرفية الإسلامية– ولكن أيضًا لأنها لا محالة وقعت في مثالب الإفراط والتفريط مما ينعكس على طبيعة ونتيجة الدراسات التي ترتكز إليها.
سابعًا: توفير قنوات الاتصال (مراكز التفكير الاجتهادي أو الوعي المنهاجي): لا بد من توفير القنوات التي تضمن الانتقال بالمدركات المستمدة من مصادر التنظير الأولوية من موضعها إلى دائرة نفاذها العملي ومحيط إشعاعها الهادي، في مجالات الفعل الحضاري للاجتماع البشري هذه القنوات التي تترجم المدركات المعرفية من مستوى إلى مستوى وتنزل بها من موضع الإطلاق إلى مواضع التخصيص، تعد خطوة أساسية في سبيل ربط العلوم الاجتماعية بمنابعها الإسلامية، وتضع عمليات البحث والتكثيف التي تقتضيها عملية المنهجية على أول الطريق الصحيح.
ثامنًا: القراءة الواجبة: القراءة المطلوبة هي ما تجمع بين مركزية المنهجية القرآنية ومتطلبات العصر وأدواته إن ما يتجه إليه العصر الحديث من توسيع في المدركات وشمول في آفاق الرؤية والنظر يجعلنا ونحن نسترجع القرآن لنعود به في مركز حياتنا الدنيا وليعود بذلك بنا إلى تبوؤ إمامتنا فيما استخلفنا له بين الأمم، لا يسعنا إلا أن يسترجعه من موقع أكثر استيعابًا لحقيقته الكلية، فيكون لنا في الخطاب القرآني الموعظة والحكمة والبرهان والذكرى والبيان والتبيان، لمعالم المنهجية التي تعالج بها الأمور ونتناول من خلالها الظواهر، نظريًا وعلميًا، فهمًا وتكييفًا، وتفقهًا وترشيدًا، فنكون بذلك إزاء منهاجية تُستمد من التنزيل هي في نفس الوقت أكثر تكافؤًا مع دواعي عصر أبعد انبساطًا في الآفاق والمدركات هذا يعني أن المنهجية القرآنية ليست منهجية منغلقة على الداخل لكنها تتفاعل مع حركة الحياة وتطورها وعيًا وتوجيهًا وإصلاحًا.
تاسعًا: السعي إلى اكتشاف المنظومة المعرفية القرآنية: في حين لم يكن المفكر في صدر الإسلام بحاجة إلى أن ينظر لدلالة الأفعال لأنه استبطنها في ظل النموذج السلوكي النبوي، فإننا نجد أنفسنا اليوم بحاجة لاستجلاء هذه المنظومة المعرفية، لنحدث التواصل دون القطيعة المعرفية التي أحدثتها الصدمة الحضارية مع الغرب.