29 عاماً مضت على مؤتمر السكان لعام 1994، الذي نظمته الأمم المتحدة في القاهرة، بين 5 و13 سبتمبر 1994م، وشاركت فيه 179 دولة، وأكثر من 11 ألف ممثل لمنظمات حكومية وغير حكومية، ولا يزال الجدل مثاراً حول توصياته التي مثلت إطلاقاً لما اعتبر «عولمة قسرية» لمفاهيم ثقافية معارضة للأديان والفطرة الإنسانية.
قراءة في توصيات المؤتمر، الذي سيعقد من جديد في العاصمة المصرية القاهرة، من 5 إلى 8 سبتمبر الجاري، تؤكد خطورة الأهداف والمخططات التي يتبناها المؤتمر التابع للأمم المتحدة، وتستهدف في الأساس المجتمعات العربية والإسلامية.
واستهدف مؤتمر عام 1994م برنامج عمل جديداً للسكان والتنمية للأعوام العشرين المقبلة (حتى عام 2015م)، يركز على تلبية احتياجات الأفراد في إطار حقوق الإنسان والصحة الإنجابية، وفق مبادئ أثارت جدلاً واسعاً بين الدول المشاركة والجهات المعنية بسبب تضمنها الدعوة إلى شرعنة الإجهاض والتعليم الجنسي والتشجيع على تنظيم الأسرة.
وكان المؤتمر هو الخامس في سلسلة من المؤتمرات التي نظمتها الأمم المتحدة حول قضايا السكان والتنمية منذ عام 1954م، ومثل استجابة للتغيرات الديموغرافية والاجتماعية والاقتصادية التي شهدها العالم في 3 عقود سابقة، مثل زيادة معدلات الخصوبة والنمو السكاني في بعض المناطق، وانخفاضها في أخرى، وظهور ظواهر جديدة مثل هجرة السكان وانتشار فيروس نقص المناعة البشرية (الإيدز) والفقر والبطالة.
كما استهدف المؤتمر تحديث خطة العمل العالمية للسكان التي اعتمدت في المؤتمر السابق في مكسيكو سيتي عام 1984م، التي ركزت على العلاقة بين السكان والتنمية والحاجة إلى تنسيق السياسات والبرامج السكانية مع الخطط الاقتصادية والاجتماعية.
وسعى المؤتمر أيضاً إلى تضمين نتائج المؤتمرات الدولية الأخرى التي عقدت في التسعينيات، مثل مؤتمر القمة العالمي للأطفال (1990م)، ومؤتمر الأمم المتحدة المعني بالبيئة والتنمية (1992م)، والمؤتمر العالمي لحقوق الإنسان (1993م).
ووفقاً للوثيقة التي صدرت عن المؤتمر، فإن رؤيته تستند إلى مبدأ أن «البشر هم أهم ثروة للأمم»، وأن «الهدف الأساسي من الجهود التنموية تحسين جودة حياة جميع البشر على أساس المساواة»، ولذلك شدد المؤتمر على أهمية تحقيق حقوق الإنسان والحريات الأساسية لجميع الأفراد، بغض النظر عن جنسهم أو عرقهم أو دينهم، وأبرز أهدافاً محددة للحد من مشكلات السكان والتنمية، على رأسها: خفض معدلات الخصوبة والزيادة السكانية، وخفض معدلات وفيات الأطفال والأمهات، وزيادة مستوى التعليم والصحة، وحل مشكلات الهجرة والبطالة.
وتضمنت توصيات المؤتمر برنامج عمل يحتوي على 16 فصلاً تغطي مجالات مختلفة من السكان والتنمية، بدءاً من التغيرات الديموغرافية، إلى قضايا التعليم والصحة والبيئة، إلى قضايا حقوق الإنسان و«الجنسانية»، وكل فصل منها يحدد خطط عمل ملزمة للدول المشاركة لتحقيق أهداف محددة، على النحو التالي:
– تحديد مستوى الخصوبة البديل للسكان في كل دولة عند مستوى يضمن استقرار السكان على المدى الطويل، الذي يقدر بمتوسط طفلين فقط لكل امرأة.
– توفير خدمات الصحة الإنجابية لجميع الأفراد والأزواج، بما في ذلك توفير وسائل منع الحمل الآمنة والفعالة والمقبولة والمتاحة والميسورة، وتقديم المشورة والتثقيف الجنسي والإنجابي، والوقاية من الأمراض المنقولة جنسياً والإيدز، والرعاية قبل وأثناء وبعد الولادة، والتعامل مع مشكلات الخصوبة.
– تعزيز حق المرأة في اتخاذ قرارات بشأن عدد أطفالها وتوقيت إنجابهم، دون أي تمييز أو إكراه أو عنف، واحترام حقها في التمتع بالصحة الجنسية والإنجابية.
– التأكيد على أن الإجهاض يجب ألا يُستخدم كوسيلة للتخطيط الأسري، وأنه يجب تقديم خدمات صحية آمنة للنساء اللاتي يلجأن إلى إجهاض حملهن غير المرغوب فيه.
– تشجيع المشاركة المتساوية للرجال والنساء في جميع مجالات الحياة العامة والخاصة، وتحقيق المساواة بينهم في حقوقهم وفرصهم ومسؤولياتهم، وتغيير الأنماط الثقافية والاجتماعية التي تعوق ذلك.
وإزاء ذلك، أثار المؤتمر اعتراضات وانتقادات من بعض الدول الإسلامية ومؤسساتها الشرعية، خاصة فيما يتعلق بالتوصيات التي تتناول قضايا الإجهاض والتعليم الجنسي والتخطيط الأسري.
ويعود أغلب تلك الانتقادات إلى عوامل، منها اختلاف المفاهيم والمصطلحات، فقد كان أحد أبرز التحديات التي واجهت المؤتمر توحيد تلك المفاهيم والمصطلحات التي تستخدم في برنامج العمل، خاصة تلك التي تحمل دلالات مختلفة بحسب الثقافة والدين والقانون.
مثلاً، أثار تفسير مصطلح «الصحة الإنجابية» الاختلاف بين الدول المشاركة في المؤتمر، إذ تعرفه بعض الدول باعتباره مشتملاً على حق المرأة في إجهاض حملها غير المرغوب فيه، بينما رفضت دول أخرى هذا التفسير، مؤكدة حق الجنين في الحياة.
كذلك، كان هناك اختلاف في تفسير مصطلح «الأسرة»، فأغلب الدول الإسلامية اعتبرته يشير إلى الوحدة الأساسية للمجتمع، التي تتكون من رجل وامرأة متزوجين شرعاً وأطفالهما، بينما اعتبرته عديد الدول الغربية مشيراً إلى أشكال مختلفة من الترابط بين الأفراد، بغض النظر عن جنسهم أو علاقتهم؛ ما يعني شرعنة نمط من الأسر يعترف بعلاقات الشذوذ الجنسية؛ أي أسرة من أبوين أو أُمين.
كما أن التدخل في شؤون الدول كان أحد أبرز الانتقادات التي وجهت للمؤتمر، باعتبار أن توصياته تشتمل توصيات بتغيير قوانين بعض الدول في مجالات تخص حقوق المرأة والأسرة والجنسية، دون احترام لمعتقداتها وقيمها، مثل إباحة الإجهاض والزنى والمثلية الجنسية.
وتصدر الدول التي أظهرت موقفا مبدئياً رافضاً لتوصيات المؤتمر، مصر وإيران والجزائر ولبنان، وهو ما أيدته عديد المؤسسات الشرعية الإسلامية، التي اعتبرت توصيات مؤتمر السكان متعارضة مع مبادئ الإسلام والأخلاق والقيم الأسرية، وعلى رأسها الأزهر الشريف، المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، والمجلس الإسلامي للدعوة والإغاثة، والمجمع الفقهي الإسلامي، التي أكدت أن توصيات المؤتمر الخاصة بالأسرة تنافي أحكام الشريعة الإسلامية، مثل حكم الإجهاض والزنى والمثلية الجنسية، ودعت إلى رفضها.
وبعد مرور 8 سنوات على السقف الزمني المحدد لتنفيذ توصيات المؤتمر، التي نفذتها كثير من الدول كلياً أو جزئياً، بدا واضحاً الخطر المحدق بالمجتمعات جراء المساس بالمفهوم الطبيعي للأسرة؛ ما تسبب في تنامي ظاهرة الشذوذ الجنسي والعزوف عن الزواج، وزيادة نسبة الشيخوخة في مجتمعات عدة.
وحتى تلك الدول التي لم تتبن أجندة الشذوذ، كالصين، التزمت بسقف لأسرة ذات طفل واحد، ما تسبب في إشكالية كبرى تتعلق بشيخوخة المجتمع أيضاً.
إن معاداة الفطرة لا يأتي بخير، وهو ما حذرت منه المؤسسات الشرعية وعديد الدول الإسلامية، لكن قطار الحضارة الغربية، النفعي والاستهلاكي، يأبى إلا أن يسير نحو تحلل ذاتي وتفكك اجتماعي، بأجندة مشبوهة وأهداف خبيثة في عام 2023م.