دائمًا ما عُرف الحق بأنه فضيلة بين رذيلتين، لكن إدراكه ووسطيته يتفاوت فيه الناس بين مصيب ومُخطئ؛ لا سيما في عظام الأمور المفتقرة إلى الإحاطة بالمعرفة والتدقيق في مستندها وإمعان النظر في حجيتها، ثم أخذ الموقف المُقسط منها، ومن ذلك الموقف من التراث الإسلامي الذي يختلف فيه النخب والمثقفون -فضلًا عن سائر الناس- بين الغالي والجافي، وسنحاول في هذا المقال تفكيك أصل الإشكال ومعالجته محافظين على نَفَس القِسط الذي أمر الله تعالى به على لسان رسله وفي سائر كتبه حيث قال: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (الحديد: 25).
التراث الإسلامي.. مشكلة التعريف بين نظرة الجافين والغالين
التراث في اللغة هو ما يُترك للورثة، ففي القرآن: (وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا) (الفجر: 19)، قال ابن منظور: «ما رجع إلى الإنسان ميراثاً له»(1)، وقد عُمم هذا المفهوم ليشمل سائر ما يُترك فكان التراث في الاصطلاح: كل ما يؤول إلى الإنسان سواء كان ماديًا أو معنويًا، جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: «إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، إنما ورثوا العلم»(2)، وقال أبو هريرة في الدين عامة عند وصفه قومًا في المسجد يصلون ويقرؤون القرآن ويتذاكرون الحلال والحرام، «فذاك ميراث محمد صلى الله عليه وسلم»(3)، وعليه فإن مفهوم التراث يشمل جميع ما وصلنا ممن سبقنا ماديًا كان -كالمنجزات الحضارية- أو معنويًا -كأمور الدين والفكر- وأصول الإشكالات بين نظرة الجفاة والغلاة تجاه التراث تبدأ من ذات التعريف؛ فيرى البعض أن عامة التراث أمر يخلو من القدسية؛ فهو منتج بشري معرض للنقد، ويرى الآخرون شمول جميعه للتقديس من حيث أصالة نصوص الوحي على ما أُنجز فيه، ويرى المقسطون الفصل بين ما هو مقدس -كنصوص الوحي قرآنًا وسنةً وما حفظ من إجماع لجيل الأوائل- وبين ما هو منجز إنسانيٌّ وإن أُنجز في ضوء التمسك بتوجيهات الوحي؛ فإنه معرض للنقد بالنظر إلى معياري موافقته للوحي من جهة وصلاحه في ذاته من جهة أخرى، وهذا الإشكال البادئ من التعريف ألقى بظلاله على النظر إلى جميع هذا التراث على تنوع موضوعاته سواء كانت دينية أو سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو غيرها، وهو ما دفع إلى سؤال: لِمَ يجب أخذ موقف من التراث أصلًا؟!
البعض ينفي قدسية التراث وآخرون يقدسون جميعه أما المقسطون فيفصلون بين المقدس والمنجز الإنساني
التراث وسؤال الحضارة
في عصر النهضة -كما يُسميه الغربيون- تخلصت أوروبا من سلطة الكنيسة، وبنت حضارتها الجديدة على الفصل بين كل ما هو روحي -ومنه الأخلاق- ومادي فقدمت الأخير؛ ولذلك لم يتمثل لديها أدنى حرج من الأخذ تارة، والسطو، تارات، على منجزات الحضارات الأخرى، وكان من ضمن ما سطت عليه المخطوطات التراثية العربية التي ما زالت مكتبات أوروبا تمتلئ بها حتى اللحظة سواء ما احتوى منها على علوم الوحي حصرًا كمخطوطات القرآن والسُّنة والفقه وغيرها أو سائر العلوم المادية، ومع أن ذلك التراث لم ينفصل فيه المادي عن الروحي، فقد بُني الأول على الأخير إلا أن فلسفة هذه الحضارة الجديدة أبت إلا أخذ موقف عدائي من كل ما هو ديني، وفي الجانب الآخر من العالم -ومنه بلاد المسلمين- حيث كانت جيوش الاستعمار تهدم الديني والدنيوي -على حد سواء- برز السؤال الحضاري الجديد؛ هل نتخلى عمّا تميزت به أمتنا من تراث واسع وعلى رأسه الوحي المقدس كما صنعت أوروبا حتى نصير إلى ما صارت إليه من قوة مادية؟ أم نحافظ على ما لدينا من تراث وإن صرنا في ذيل الأمم؟ ولا شك أن كلا الطرفين قد قدم مقدمات خاطئة تقود إلى نتائج خاطئة(4)، فإن الحضارة الغربية ليست مثلًا يُحتذى لا سيما مع ظهور ما أفسدت على الصعيد الأخلاقي والاجتماعي والاقتصادي بل وحتى البيئي ليُقال: لندع الدين حتى نصير إلى ما صارت إليه! وليس الدين -أعني به الإسلام على وجه الخصوص- سببًا في تأخر المنجزات الحضارية المادية بدليل ما كانت عليه الحضارة الإسلامية من سبق وريادة في سائر المجالات.
الصراع بين منهجين في نقد التراث
وفي ضوء هذا الصراع، نشأ منهجان مختلفان تجاه الموقف من التراث؛ الأول من جافاه بدعوى أنه السبب فيما وصلنا إليه من تخلف، ومن هذا يقول سلامة موسى: «أسوأ ما أخشاه أن ننتصر على المستعمرين ونطردهم، وأن ننتصر على المستغلين ونُخضعهم، ثم نعجز عن أن نهزم القرون الوسطى في حياتنا، ونعود إلى القديم»(5)، ويقول زكي نجيب محمود: «التراث كله بالنسبة إلى عصرنا قد فقد مكانته»(6) قبل أن يتراجع عن ذلك فيما بعد، والثاني من نشأ كرد فعل على هذا التطرف فاعتبر جميع التراث مادة مقدسة لا يجب مراجعتها حتى ما كان منها متعلقًا بالاجتهادات والآراء بل وما اختُلف فيه في زمنه، أما المقسطون فقد فرّقوا بين مكامن القوة في التراث الذي يصلح استلهامه في كل زمان ومكان وعلى رأسه الرؤية الإسلامية الشاملة عن الحياة والكون والإنسان التي تسم بطبيعتها جميع المنجزات الحضارية المادية بوسم خاص يحوي صلاحها واستمرارها؛ وبين ما هو اجتهادات بشرية -في أي صعيد كانت- تصيب وتُخطئ ويصلح بعضها لزمن دون الآخر.
التراث الإسلامي المتضمن للرؤية الكونية هو ما يحتوي على عناصر القوة التي يصلح استلهامها
وجوب التماس مكامن القوة في التراث الإسلامي
ومن انتبه إلى هذا التفريق أصبح من الواجب عليه تعيين مكامن القوة في هذا التراث؛ بداية من الإجابة عن الأسئلة الحضارية: من نحن؟ وماذا نريد؟ ولماذا النظر في التراث؟ وانتهاءً بالتفصيل في عوامل النهوض التي بدأت منذ بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إلى أسباب السقوط زمن الاستعمار.
ولا شك أن أهم مكامن القوة في التراث الإسلامي هو الإجابة عن هذه الأسئلة الحضارية إجابة واضحة، فأخبر أن البشر عباد الله، استخلفهم لإعمار الأرض بطاعته في كل مجالات الحياة لا لأجل الطعام والشراب والترف، فأصبح هدف كل من آمن بذلك إقامة أمر الله تعالى في الأرض بعبادته، قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات: 56)، وعليه؛ فإن التراث الإسلامي المتضمن لهذه الرؤية الكونية هو وحده ما يحتوي على عناصر القوة التي يصلح استلهامها في سائر المجالات دون غيره، ودلائل ذلك ثابتةٌ نظريًا حتى قبل دراسة تفاصيلها عمليًا بالتبحر في علوم التراث وإثبات عمقها وتفردها، ولعل الكثير من الدراسات للتراث الإسلامي في سائر الجامعات الغربية الآن خير شاهد على التماسهم حل مشكلاتهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية منه(7)، فضلًا عن تحتم ذلك على من آمن بالله ربًا وبالإسلام دينًا.
_______________________
(1) لسان العرب ج2، ص 200.
(2) أخرجه أبو داود (3641) والترمذي (2682) وغيرهما، وصححه الألباني.
(3) المعجم الأوسط للطبراني (1483).
(4) مقدمة عمر عبيد حسنة لكتاب التراث والمعاصرة.
(5) ما هي النهضة؟ ص 10.
(6) تجديد الفكر العربي، ص 110.
(7) مشروع وائل حلاق وجورج صليبا نموذجًا.