تدَّعون أن الإسلام دين يدعو إلى السلام العالمي، وأن أحكامه وضعت لتحقيق الأمن والأمان للمجتمع الإنساني، فلماذا تقفون ضد وحدة الأديان التي يدعو إليها العقلاء من المفكرين وأصحاب الرأي، وهي الدعوة التي ستحقق الأمن والسلام بين أصحاب الأديان؟!
تفنيد هذه الشبهة وبيان بطلانها
أولاً: ينبغي أن نؤكد أن فكرة السلام في الإسلام فكرة أصيلة، تتصل اتصالًا قويًا بطبيعته وتصوّره الكلّي عن الكون والحياة والإنسان، وطبيعة السلام في الإسلام مستمَدَّة من هذا التناسق في طبيعة الكون، وفي أصل الإنسان؛ فالسلام هو القاعدة الدائمة، والحرب هي الاستثناء الذي يستلزم الخروج عن هذا التناسق المتمثل في دين الله الواحد، بالبغي والظلم، أو بالفساد والاحتلال، وأشد الظلم الشرك بالله، وأسوأ الفساد عبادة غير الله، فيستلزم ذلك كله الحرب، يقول تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (الأنفال: 39)(1).
ثانياً: لا يخفى على أحد ما يعانيه المسلمون في شتى بقاع الأرض من أزمات شتى، ففي الوقت الذي يصارع فيه علماء المسلمين موجات الإلحاد والزندقة، وردِّ دعاوى الجاهلية القديمة والحديثة، وصد عاديات التغريب، والانحراف.. يثير أعداء الإسلام من العلمانيين والعصرانيين هذه الشبهة «وحدة الأديان»؛ طعناً في الدين، وكيداً للمسلمين؛ لإفساد نزعة الالتزام عندهم، وتذويب شخصيتهم وإدخالهم في معترك الديانات، ومطاردة التيار الإسلامي، وكبت طلائعه المؤمنة، وسحب أهله عنه إلى ردة شاملة.
تاريخ الدعوة إلى «وحدة الأديان»
من هنا، وجب علينا أن نتوقف عند هذه الكذبة «وحدة الأديان» التي ظهرت بين المسلمين، ما الباعث لها؟ وما حكم الإسلام فيها، وحكم الاستجابة لها من المسلمين، وحكم من دعا إليها، ونشرها في ديارهم؟
تاريخ هذه الشبهة
بتتبع المراحل التاريخية لكذبة «وحدة الأديان»، نجدها قد مرت بأربع مراحل زمانية، هي:
1- عصر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فقد بيَّن الله سبحانه في محكم كتابه أن اليهود والنصارى في محاولة مستمرة لإضلال المسلمين عن إسلامهم، وردهم إلى الكفر، ودعوتهم إلى اليهودية أو النصرانية، فقال تعالى: (وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (البقرة: 109)، وقال تعالى: (وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (البقرة: 135)، وهكذا في عدد من الآيات التي يتلوها المسلمون في كتاب الله؛ ليحذروا اليهود والنصارى، وغيرهم.
2- مرحلة الدعوة إليها بعد القرون المفضلة: ثم بدت محاولاتهم مرة أخرى تحت شعار صنعوه، وهو أن المِلل (اليهودية، والنصرانية، والإسلام) هي بمنزلة المذاهب الفقهية الأربعة عند المسلمين، كل طريق منها يوصل إلى الله تعالى(2)، وهكذا فيما يثيرونه من الشبه، ثم تلقاها عنهم دعاة «وحدة الوجود»، و«الاتحاد والحلول»، وغيرهم من المنتسبين إلى الإسلام من ملاحدة المتصوفة وغلاة الرافضة، حتى بلغ الحال أن بعض هؤلاء الملاحدة يجيزون التهود، والتنصر، بل فيهم من يرجح دين اليهود والنصارى على دين الإسلام!
وقد كشف هؤلاء شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع من كتابه(3)، وقد قُمِعَت هذه الدعوة الكفرية بمواجهة علماء الإسلام لها.
3- مرحلة الدعوة إليها في النصف الأول من القرن الرابع عشر: وقد خمدت حيناً من الدهر متحجرة في صدور قائليها، المظهرين للإسلام، المبطنين للكفر والإلحاد، حتى تبنتها حركة «صن مون التوحيدية»، وقبلها «الماسونية» تحت غطاء الدعوة إلى وحدة الأديان الثلاثة، ونبذ التعصب بجامع الإيمان بالله، فكلهم مؤمنون.
4- وكنا نظن أن هذه الشبهة قد انتهت للأبد، إلا أننا فوجئنا بالمرحلة الرابعة في ظل النظام العالمي الجديد، والتطبيع مع الكيان الصهيوني المغتصب؛ حيث جهر اليهود والنصارى من خلال أذنابهم بالدعوة إلى التجمع الديني بينهم وبين المسلمين، وبعبارة أخرى التوحيد بين الموسوية، والعيسوية، والمحمدية باسم «الدعوة إلى التقريب بين الأديان» (التقارب بين الأديان)، ثم باسم «نبذ التعصب الديني»، ثم باسم «الإخاء الديني»، وباسم «مجمع الأديان»، وفتح له مركز بسيناء مصر بهذا الاسم(4)، وباسم «الصداقة الإسلامية المسيحية»، وباسم «التضامن الإسلامي المسيحي ضد الشيوعية»، ثم أخرجت للناس تحت عدة شعارات، منها «وحدة الأديان»، «توحيد الأديان»، «الإبراهيمية»، «الوحدة الإبراهيمية«، «وحدة الدين الإلهي»، ثم امتد أثر هذا الشعار إلى فكرة طبع القرآن الكريم، والتوراة، والإنجيل في غلاف واحد.
حُكم من يثير هذه الشبهة
من أصول الاعتقاد في الإسلام: اعتقاد توحد الملة والدين في التوحيد، والنبوات، والمعاد، والإيمان الجامع بالله، وملائكته، وكتبه ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وما تقتضيه النبوة والرسالة من واجب الدعوة، والبلاغ، والتبشير، والإنذار، وإقامة الحجة، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، بإصلاح النفوس، وتزكيتها، وعمارتها بالتوحيد، والطاعة، وتطهيرها من الانحراف، والحكم بين الناس بما أنزل الله، واعتقاد تعدد الشرائع وتنوعها في الأحكام، والأوامر والنواهي، وهذا الأصل هو جوهر الرسالات كلها.
وإن الدعوة إلى توحيد دين الإسلام الحق الناسخ لما قبله من الشرائع، مع ما عليه اليهود والنصارى من دين دائر بين النسخ والتحريف، هي أكبر مكيدة عُرفت لمواجهة الإسلام والمسلمين اجتمعت عليها كلمة اليهود والنصارى بجامع علتهم المشتركة بُغض الإسلام والمسلمين، وغلفوها بأطباق من الشعارات اللامعة، وهي كاذبة خادعة، فهي في حكم الإسلام دعوة بدعية، ضالة كفرية؛ لأنها تصطدم مع صدق القرآن الكريم، ونسخه لجميع ما قبله من الكتب، وتبطل نسخ الإسلام لجميع ما قبله من الشرائع، وتبطل ختم النبوة والرسالة بمحمد صلى الله عليه وسلم، فهي شبهة مرفوضة شرعاً، محرمة قطعاً بجميع أدلة التشريع في الإسلام من كتاب وسُنة، وإجماع، فلا يجوز لمسلم يؤمن بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسولاً، الاستجابة لمثل هذه الدعوات، ولا الدخول في مؤتمراتها، وندواتها، واجتماعاتها، وجمعياتها، ولا الانتماء إلى محافلها، بل يجب نبذها، ومنابذتها، والحذر منها.
وليعلم كل مسلم أن غاية هؤلاء من وراء إثارة هذه الشبهة استهداف الإسلام والمسلمين من خلال:
1- التشويش على الإسلام، وبلبلة عقول المسلمين، وشحنهم بسيل من الشبهات، والشهوات؛ ليعيش المسلم بين نفس نافرة، ونفس حاضرة.
2- إتيان الإسلام من قواعده؛ للقضاء عليه، وإضعاف المسلمين، ونزع الإيمان من قلوبهم.
3- حل الرابطة الإسلامية التي تجمع بين المسلمين؛ لإحلال الأخوّة البديلة اللعينة؛ «أخوة اليهود والنصارى».
4- إبطال أحكام الإسلام المفروضة على المسلمين أمام الكافرين من اليهود والنصارى وغيرهم من أمم الكفر ممن لم يؤمنوا بالإسلام.
5– صياغة الفكر بروح العداء للدين في ثوب «وحدة الأديان»، وسلخ العالم الإسلامي من دينه، وعزل شريعته عن الحياة.
6- إسقاط جوهر الإسلام، واستعلائه، وظهوره وتميزه، بجعل هذا الدين المحكم المحفوظ من التحريف والتبديل، في مرتبة متساوية مع غيره من الأديان المحرفة، بل مع العقائد الوثنية الأخرى(5).
لذا، وجب على المسلمين الكفر بهذه الكذبة (وحدة الأديان)، وليعلم كل مسلم أن الدعوة إلى هذه الكذبة كفر، ونفاق، وأن حال الدعاة إليها من اليهود، والنصارى مع المسلمين كما قال تعالى: (وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) (آل عمران: 119).
ونقول لهؤلاء الذين يقولون: ما المانع أن تتعاون كل الأديان في إسعاد البشرية؟
إن الإسلام يدعونا إلى بر كل إنسان لم تمتد يده بالأذى للمسلمين، قال تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة: 8)، ولكنه في الوقت نفسه حذرنا من حقد هؤلاء علينا، فقال تعالى: (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ) (البقرة: 120)؛ فكيف نتعاون مع أناس لا يعترفون بنا ويضمرون لنا كل شر(6)؟!
___________________________
(1) «السلام العالمي والإسلام»، سيد قطب، 1/ 15.
(2) الموسوعة الميسرة: 2/ 669 – 674.
(3) الرد على المنطقيين، ابن تيمية، 1/ 282 – 283.
(4) كتاب «الإخاء الديني ومجمع الأديان.. سياسة غير إسلامية»، د. محمد البهي، 1/ 3.
(5) كتاب «صحوة الرجل المريض»، موفق بني المَرجة، 1/ 345، بتصرف.
(6) للمزيد حول هذه الشبهة طالع كتاب «الإبطال لنظرية الخلط بين دين الإسلام وغيره من الأديان، د. بكر بن عبدالله أبو زيد.