يكثر الطلب على تخصص ما، تفرضه ندرة المعروض مقابل الطلب الكبير عليه، والمتأمل في طفرة الإنشاءات التي شهدتها دول عدة، يلاحظ زيادة الطلب بشكل كبير على المهندسين في التخصصات المرتبطة بالبناء والتشييد، كما يلاحظ زيادة الطلب على الأطباء والصيادلة ومهن أخرى فرضتها حاجة السوق والمجتمعات.
ولا زال قطاع كبير من الناس يحثون أبناءهم على دخول كلية ما فقط لأنها من كليات القمة، أو لأن هذه الكلية وافقت المجموع الذي حصل عليه في الثانوية العامة، في بعد تام عن النظر في متطلبات سوق العمل.
وبعض الطلبة يفضلون التخصص الدراسي الذي يحبونه أو يعتقدون أنه المناسب لملكاتهم وقدراتهم، فيتوجهون إليه دون تفكير في مدى ملائمته لسوق العمل، وكأنهم ليسوا مطالبين في المستقبل بأية التزامات مادية!
الأسرة في الغالب ليست طرفاً محايداً في مساعدة ابنهم خريج الثانوية العامة، فلازالت عقدة كليات القمة مسيطرة ولا زال كثير من البيوت لا يملك المعرفة الكافية بواقع ومستقبل سوق العمل الآخذ في الطيران ناحية التقنية والمهن التكنولوجية التي ستسيطر على كافة مناحي الحياة.
والمطلوب حالياً (التناصح الاجتماعي) بشكل مكثف، على أن ينبري المثقفون في كل شارع وكل حارة وداخل كل عائلة لتقديم النصيحة لخريجي الثانوية العامة ويبينوا لهم تحديات المستقبل، وأهمية اختيار التخصص المناسب لمهاراتهم غير المنعزل عن الطلب في سوق العمل.
أذكر أني في السنة الأولى وتحديداً في نهاية الترم الثاني حالفني الحظ، وأدركتني رحمة ربي حينما جلس بجواري في الباص طالب في الفرقة الرابعة بنفس كليتي، وشرع بحكم خبراته في تقديم بعض النصائح التي تعينني في الدراسة، وتضمن لي الترتيب على الدفعة لاسيما حين علم أنني من أوائل الثانوية.
وقال لي من ضمن ما قال: إن نمط الإجابات في اختبارات الجامعة لابد وأن يختلف عن نمط الإجابات في امتحانات المرحلة الثانوية والمراحل التي دونها، فلا مجال لما يعرف بالإجابات النموذجية في الصفوف الجامعية، وأخذ يحدثني عن طبيعة الكلية، وكيفية تلمس ميول واتجاهات أعضاء هيئة التدريس ونمط كل مدرس وأستاذ بالكلية، وماذا يحب في ورقة الإجابة وماذا يكره، إلى غير ذلك من الأمور التي التصقت بذهني وطبقت أغلبها لأني استشعرت الصدق من حديثه!.
لم يكن لي ترتيب على الدفعة في السنة الأولى من الكلية لأني قضيت الترم الأول معتمداً على تصوري وحدي للأمور، في حين لما طبقت نصائح زميلي الذي يكبرني، وصل الأمر إلى الترتيب على الدفعة وكان التقدير النهائي بفضل من الله (ممتاز).
مع انتهاء اختبارات الثانوية العامة، وظهور النتائج، تلوح في الأفق حيرة في وجوه كثير من الشباب والفتيات، أزعم أن أهم ما يحتاجونه الآن (النصيحة المخلصة) المنبثقة من خبرات وتجارب أصحابها، تلك النصيحة المتفهمة لنفسيات الشباب والفتيات، والمدركة لحجم التغيير الكبير في مسألة العلاقة بين مخرجات التعليم، وواقع سوق العمل لنزع الأفكار المغلوطة من أدمغة الكثيرين منهم على نحو يحسن معه مواكبة تطورات العصر ووضع الأقدام على بداية الطريق الصحيح.
ليس عندي شك أن واحدة من أهم المشكلات التي يعاني منها المجتمع حالياً افتقاره للناصحين القدوات، الذين يملكون ذكاءً اجتماعياً يرفع عن أفراد المجتمع التيه، والتخبط والعشوائية، فمجتمعاتنا وللأسف الشديد ونتيجة لانشغال كل فرد بنفسه وتمحوره حول ذاته، لاسيما في ظل ما يعرف بـ(التباعد الاجتماعي) تعاني ضعفاً شديداً من مسألة (التناصح الاجتماعي) الذي يقصر المسافات، ويختصر الجهد، ويدفع نحو النجاح والتميز.
لا تبخل على الناس بالنصيحة فربما تدركك رحمة الله بدعاء أحدهم لك.. وأنت لا تدري!