إن الحروف لتجتمع على صفحة أوراقي نشوَى بذكره، ثم لا تلبث أن تتناثر الكلمات خشية التقصير في حقه، وترتجف أناملي فرَقاً وهي تخُط حديثَ مدحه، فلا أدري كيف أكتب وماذا أكتب! وأنَّى لي الكتابة عنه، فداه روحي ونفسي! كيف لي أن أظهِر قدره، أو أذكر فضله وهو سيد ولد آدم، وخليل الله المختار، وخاتم أنبيائه ورسله، المُجاب في دعوته، والشفيع لأمته، وأعظم الناس حقاً علينا، وأوْلاهم طاعة عندنا.
أليس هو القائل عن نفسه: «أنا سيِّدُ ولدِ آدمَ يومَ القيامةِ ولا فخرَ، وبيدي لواءُ الحمدِ ولا فخرَ، وما من نبيٍّ يومئذٍ آدمَ فمَن سواهُ إلَّا تحتَ لوائي، وأنا أوَّلُ من تنشقُّ عنْهُ الأرضُ ولا فخرَ» (رواه الترمذي، صححه الألباني)، صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً، فهو أعظم إنسان خلقه الله، وهو الرحمة المهداة؛ فكيف يوفيه حديث، أو يصفه كلام، أو يصوره بنان، أو أن يُحسن في مدحه إنسان؟!
سيد ولد آدم.. النبي المصطفى
إنه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، سيد ولد آدم، المصطفى على سائر خلق الله، رسول الله إلى الناس كافة، البشير النذير لهم، إنسهم وجنهم، وأحمرهم وأسودهم، وعربهم وعجمهم.
قال لنا معرفاً نفسه: «أنا محمدُ بنُ عبدالله بن عبدالمطلبِ، إن الله تعالى خلق الخلْق فجعلني في خيرهم، ثم جعلهم فرقتَين، فجعلني في خيرهم فرقة، ثم جعلهم قبائل، فجعلني في خيرهم قبيلة، ثم جعلهم بيوتاً، فجعلني في خيرهم بيتاً، فأنا خيركُم بيتاً، وأنا خيرُكم نفساً» (صحيح الجامع)، وقال: «إن اللَّه اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطَفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم» (رواه مسلم)، فقد اصطفاه الله واجتباه، وأتم به الدين، وجعل رسالته خاتمة الرسالات، وعصمه وحفظه من الناس حتى يتم له البلاغ المبين.
هو عبد الله ورسوله، لكنه أحَبُّ العباد إليه والمقرب لديه، فقد آتاه الله من الفضائل من كل ما أوتي أنبياؤه ورسله عليهم الصلاة والسلام، فآتاه الله عزم نوح في دعوته، وصدق إبراهيم في وفائه، وانقياد إسماعيل في طاعته، ورفق يعقوب ومحبته، وعفو يوسف مع قدرته، وصبر أيوب في بلائه، وثبات موسى في قومه، وفهم سليمان في حكمه، وبركة عيسى في تعليمه، وحباه الله خُلقاً عظيماً ليس لأحد غيره وزكاه فيه فقال له: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم: 4)، وهو في ذلك كله صلى الله عليه وسلم إمام الأتقياء، وقدوة المحبين من المؤمنين، والأسوة الحسنة لهم إلى يوم الدين.
أعظم إنسان
ومع تلك المنزلة الرفيعة والمكانة العالية التي وهبه الله إياها، فإنه صلى الله عليه وسلم كان متواضعاً غير متكبر، يعترف بفقره لربه فيدعوه ويرجوه، ويستغفره ويتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة.
وكان يعيش بين أصحابه سهلاً ليناً، رفيقاً شفيقاً، رؤوفاً رحيماً، يخفض لهم جناحه؛ ويؤكد أنه نبي إنسان، يأكل ويشرب، ويصحو وينام، ويتزوج وينجب، ويصح ويمرض، ويحس ويتألم، ويفرح ويحزن، ويحب ويكره، وهو زوج صالح لأزواجه، وأب حنون لأولاده، وصديق وفيّ لأصحابه، وأخ مخلص في أخُوَّته، وقائد بارع في معاركه، وحاكم عادل في حكمه، قد حاز الفضل والفضيلة من جميع الجوانب؛ إذ آتاه الله الخير كله وجعله أكمل خلقه، صلى الله عليه وسلم.
هو أحسن الناس عشرة وأدباً، وأوصلهم رحماً، يحب المساكين والفقراء ويجالسهم بتواضع، ويعودهم بحب، ويشهد جنائزهم بصبر، ويجيب دعوة العبد، وهو دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، لا يتكلم في غير حاجة، وكان ضحكه تبسماً.
تقول عائشة رضي الله عنها تصف أخلاقه: «كان أحسَنَ النَّاسِ خُلقاً، لم يكن فاحشاً ولا مُتفحِّشاً ولا سخَّاباً في الأسواق، ولا يجزي بالسيئةِ السيئةَ ولكنْ يعفو ويصفح» (رواه ابن حبان)، «كان يخصِفُ نعلَه ويَخيطُ ثوبَه ويعمَلُ في بيتِه كما يعمَلُ أحَدُكم في بيتِه» (رواه أحمد)، «كان بشراً من البشر؛ يَفْلِي ثوبَه، ويحلبُ شاتَه، ويخدم نفسه» (رواه أحمد)، صلى الله عليه وسلم.
ويذكر ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم «كان يجلس على الأرض، ويأكل على الأرض، ويعتقِلُ الشاة، ويُجيب دعوة المملوك على خبز الشعير» (صحيح الجامع)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «ما عابَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ طَعاماً قَطُّ، إنِ اشتهاه أكَله، وإن كرهه تركه» (رواه البخاري)، فلقد اجتمع فيه جمال الخَلق وحسن الخُلق، فهو أجمل مَن رأى إنسان، وأفضل من أظلت السماء، وخير مَن حملت الأرض، صلى الله عليه وسلم.
الحبيب إلى أمته
فرض الله علينا حبه وطاعته، فهو المحبوب من أمته، وإن قلوبهم لتهفو للقرب منه وتتمنى رؤيته، صلى الله عليه وسلم، ولقد أكد وجوب حبنا له فقال: «لا يؤمن أحدكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من والده وولده والناس أجمعين» (رواه البخاري)، ولأننا نحبه؛ فإن علينا أن نتعرف عليه وننظر ماذا يحب، وماذا يكره؟ ما الذي يرضيه منا؟ كيف نستأثر بحبه ونفوز بقربه؟ لا نشبع من حديثه، بل نلازمه في سيرته ونمشي على طريقته ونتتبع خطاه وسُنته.
ألا وإن المحب الصادق يهتم بكل حرف يسمعه من حبيبه، يصدقه فيه ويؤمن به، ويدعو إليه، وينافح عنه ويذب تحريف المبغضين له، وتأويل المشككين فيه، يُقبِل على رسائله بلهفة وشوق، وإذا طلب منه طلباً فإنه يسعى بكل جهد وحب لامتثال أمره، طيبة بذلك نفسه، أملاً في إرضاء الحبيب صلى الله عليه وسلم.
فلينظر كل منا كيف يكون حبه للنبي صلى الله عليه وسلم، فحبه عبادة وقربة لله، وجدير بكل منا أن يختبر صدق هذا الحب فيسأل نفسه: أين أنا من أمره ونهيه؟ وأين أنا من شرعه وحكمه؟ أين أنت من منهجه وسنته؟ وأين أنت من أدبه وخُلقه؟
ولتسأل نفسك أيها المحب: لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حياً بيننا وأتاك زائراً في بيتك، وكان مصاحباً لك في عملك، ناظراً إلى عبادتك وخُلقك، يشهد معاملتك لزوجك، وتربيتك لولدك، وعلاقتك برحمك، وغير ذلك مما تَعلمه من نفسك، أيسُرك أن يراك كما أنت الآن؟ أم أن علامات الخجل والاستحياء ستبدو على وجهك؟ سؤال يجيب عنه المحبون ليصلح حالهم، ويرقى حبهم لسيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم.