مر أكثر من عقد على تخرجي من كلية اللغات مررت خلالها بالكثير من التجارب والوظائف، ورأيت كم لم تزل الهوة واسعة بين أنظمة ومناهج التعليم بشكل عام والجامعي على وجه التحديد، وما تتطلبه سوق العمل والحياة العملية، وأعرض فيما يلي أهم الدروس التي تعلمتها على مدار ثلاث عشرة سنة؛ سواء فيما يتعلق بتخصصات الدراسة الجامعية والتحديات التي تواجه الكثير من المتخرجين في سوق العمل، حتى يتفادوا تكرار ذات الأخطاء ولتغدو تجربتهم العلمية والعملية أكثر نفعًا:
1- الدرجة والشهادة الجامعية في وادٍ وسوق العمل في وادٍ آخر:
يشجع الكثير من الآباء والأساتذة الجامعيين الطلبة على الدراسة والحفظ لنيل أعلى الدرجات في الكلية، وإيهام الطلبة بأنه كلما ارتفع تقديرك في الكلية؛ علت فرصتك في الحصول على وظيفة وكانت لك الأولوية! وقد أثبتت هذه النظرية بطلانها، فالحقيقة أن ما ينظر إليه أرباب العمل هو المهارات والكفاءات التي يملكها الشخص، ومدى النفع الذي سيحققه للشركة أو المشروع.
ومعظم الشركات وخاصة التي تُعنى باستخدام اللغات الأجنبية والترجمة تعتمد على إجراء اختبارات -خاصة بها ودون الاطلاع على الشهادة- لقياس مستوى المتقدمين اللغوي، ومعرفة مدى أهليتهم للوظيفة، ولا يتم النظر في الشهادة إلا حين يتم طلب الأوراق لتوقيع عقد العمل؛ أي قبول الشخص للعمل بالفعل.
2- العلوم العملية تُدرَّس بصورة نظرية:
مثلًا، من المعروف أن تعلم اللغات يعتبر من الأمور التي تحتاج ممارسة عملية للغة المستهدفة من خلال المحادثة في الحوار، غير أن معظم الكليات المخصصة والمتخصصة في تعليم اللغات بالدرجة الأولى، لم تَلقَ محاضرات المحادثة الاهتمام المطلوب أو حتى الكافي، فكان تدريس القواعد والأدب يحتل المرتبة الأولى والأكبر، بينما لا تتعدى دروس المحادثة بضع محاضرات يتكلم فيها الأستاذ الجامعي معظم الوقت، أو يقرأ من كتاب.
والأسوأ أنه كثيرًا ما كان يخطئ هو في النطق، وأحيانًا كانت تستخدم اللغة العربية بدل الأجنبية المراد تعلمها! لذا، فإن الطالب إن لم يسع بمجهود شخصي بحت لممارسة اللغة بنفسه، فإنه ليس من المستبعد أن يجد نفسه وقد تخرج، وهو لا يحسن التحدث -لعدة دقائق على أقل تقدير- باللغة التي يحمل شهادتها بتفوق.
3- مناهج لا تواكب العصر ولا الحاجة:
فمثلًا؛ تُدرَّس في كلية اللغات جميع أنواع اللغات من خلال أدب القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وإذا أخذنا اللغة الإنجليزية كمثال، فالمُطَّلع على المنهج والروايات والمسرحيات المقررة على الطلبة لا ريب سيلحظ الهوة الشاسعة بين التعبيرات والمفردات المستخدمة في ذلك الزمن البعيد، ونظيرتها في العصر الحالي؛ وبالتالي، يضطر الطالب أن يبذل مجهودًا مضاعفًا ومستقلَّا لتعلم اللغة كما تُستَخدم في الوقت الراهن حتى يتمكن من ممارستها على الوجه الصحيح والحصول على وظيفة مناسبة.
مادة الدراسات اللغوية نموذجًا؛ فالمنهج في بعض الأحيان كان عبارة عن دراسة وحفظ لتاريخ اللغة، أو دراسة وحفظ أمثلة تتعلق بقواعد اللغويات، والكثير من الأساتذة كان يكتفي بالقراءة من الكتاب، والإشارة إلى أهم الأمور التي ينبغي حفظها.
4- متخرجون ينقصهم الكثير:
وهذا يعتبر الطامة الكبرى بالنسبة للتعليم الجامعي، فبعد كل الدراسة والمجهود والحفظ، يخرج الطالب إلى الحياة بنية الانطلاق والممارسة والتطبيق، ليجد نفسه غير مؤهل حتى للتخصص الذي تزعم شهادته أنه يملكه، فتجد خريجة تخصص اللغة الإسبانية مثلًا غير قادرة على التواصل بها بطلاقة، وهو أقل المطلوب والمتوقع من طالب تخصص في هذه اللغة لأربع سنوات متتالية، ومن هنا، فإنه لا يكون مقبولًا أن يقف ذلك المتخرج عاجزًا أو حتى متلعثمًا، حين يُطلب منه إجراء محادثة بتلك اللغة! بيد أن العكس تمامًا هو ما يحدث بسبب انهيار النظام التعليمي الجامعي ورداءة المناهج من جهة، وتعويل الطالب على كفاءتها دون بذل أي مجهود شخصي من جهة أخرى.
5- بيئة العمل صادمة:
وهذا هو بيت القصيد، فأرباب العمل والعاملون في الموارد البشرية لا يدركون الفجوة الكبيرة بين التعليم والتوظيف، وإنما يضعون معايير ويختارون الأشخاص المناسبين على أساسها.
صحيح أن هناك الكثير من المشروعات التي توفر محاضرات لتأهيل الطلبة لسوق العمل، ولكن معظم هذه المشروعات تطوعية، وتعتبر كمن يرقع ثيابًا مهترئة، ذلك أن أقصى ما يمكن أن تقوم به هذا المشروعات هو تأهيل الطالب لمقابلة عمل، ومعرفة أبرز الأسئلة التي يتم طرحها، وأفضل التخصصات المتاحة، ولكن تظل الكثير من المهارات بحاجة للصقل والتعلم أبسطها -وهو المتوقع في مجال تعلم اللغات- إتقان اللغة وتحدثها بطلاقة.
6- الشغف وسوق العمل:
فمن أكبر الأخطاء التي قد يرتكبها الإنسان حين يختار مجال التخصص في دراسته هو التغاضي عن الإلمام بالعائد المادي من هذه الوظيفة، فحب دراسة ما والشغف بها أمر، وأن يكون لهذا الشغف طلب في سوق العمل، ومن ثم أجر مجزٍ؛ أمر مختلف تمامًا، فعلى المتقدم لدراسة ما أن يضع كل هذه الأمور في اعتباره عند اختياره لمجال تخصصه، والوظيفة التي يود الاشتغال بها مستقبلًا بناء على هذه الدراسة.
7- أنت لست ملزماً بتخصصك:
فالكثيرون يصرون على العمل بتخصصاتهم بعد الدراسة لمجرد أنه التخصص، حتى وإن فُتحت له أبواب أخرى أكثر ربحًا من الناحية المادية وأقرب لشغفه، ويظن أنه بانتقاله لتخصص آخر يضيع سنوات دراسته، وتلك وجهة نظر غير سليمة، فأنت وإن لم تعمل بتخصصك الجامعي فقد أفدت مما تعلمته وكفى، وانظر للمسألة على أنها تجربة حياتية فيها ما فيها من الدروس والعبر وانتهى الأمر، وضع في اعتبارك أن الكثيرين قد لا تتسنى لهم قدرة أو فرصة الاختيار الدقيق والصائب من أول مرة، ولكن تظهر فرص أخرى لاحقًا، فإذا تيسرت لك تلك الفرصة فاغتنمها ولا يكن المانع تخصصك الدراسي، فهو ليس نهاية العالم، ولك الانتفاع به في مقام آخر.
وفي الختام، فإن اختيار المهنة أو الوظيفة التي سيشتغل بها الإنسان لا تتوقف دومًا بناء على التخصص الجامعي، وقد لا تتضح الرؤية للكثيرين في سنوات الدراسة أو حتى بعد الاشتغال بوظيفة، وقد يتطلب الأمر زمنًا والكثير من التجارب وربما تعلم لغة أو مهارة معينة، فتقبل هذا الأمر بصدر رحب، لعل الله يفتح لك بابًا خيرًا مما اخترت، ولا تذهب نفسك على ما تعلمت في الجامعة حسرات، فالعملية التعليمية لا تتوقف بنهاية المرحلة الجامعية، ذلك أن مدرسة الحياة مستمرة فاستفد واستمتع بالرحلة ما استطعت لذلك سبيلًا.