حفلت كتب سير سلفنا الصالح بقصص رائعة في أمر علو الهمة، منها علو همة حبر الأمة وترجمان القرآن عبدالله بن عباس رضي الله عنه في طلب العلم.
عن ابن عباس رضي الله عنه قال: لما قُبِض رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لرجل من الأنصار: هلمّ، فلنسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم اليوم كثير، فقال: واعجبًا لك يا ابن عباس! أترى الناس يفتقرون إليك وفي الناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من فيهم؟ قال: فتركت ذلك، وأقبلت أسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحديث، فإن كان ليَبلُغني الحديث عن الرجل، فآتي بابه وهو قائل، فأتوسَّد التراب، فيخرج فيراني فيقول: يا ابن عمّ رسول الله، ما جاء بك؟ ألا أرسلت إليّ فآتيك؟ فأقول: لا، أنا أحقّ أن آتيك فأسألك عن الحديث فعاش ذلك الفتى الأنصاري حتى رآني، وقد اجتمع الناس حولي يسألوني فيقول: هذا الفتى كان أعقل مني (أخرجه الطبراني). (صفة الصفوة 1/ 369).
وقال رضي الله عنه: ذَلَلْتُ طالبًا، فعزَزْتُ مطلوبًا، وكان يقول: وجدتُّ عامّة عِلْم رسول الله صلى الله عليه وسلم عند هذا الحيّ من الأنصار، إنْ كنتُ لأَقِيل بباب أحدهم ولو شئتُ أُذِن لي، ولكن أبتغي بذلك طِيب نفسه. (عيون الأخبار 2/ 519، 520).
وهذه ثمرة علو الهمة الموصلة إلى سعادة الدارين، وفي ذلك يقول ابن القيم: وكمالُ كلِّ إِنسانٍ إنَّما يَتِمُّ بهذين النَّوعين؛ هِمَّةٌ تُرقِّيهِ، وعلمٌ يُبصِّرهُ ويَهديهِ؛ فإنّ مَراتَب السَّعادَةِ والفَلاحِ إنَّما تفوتُ العَبدَ من هاتَين الجهتَين، أو مِن إحداهُما، إِمَّا أنْ لا يكونَ له علمٌ بها، فلا يتحرَّكُ في طَلَبها، أو يكونَ عالمًا بها ولا تنهَضُ همَّتُهُ إليها، فلا يَزالُ في حضيضِ طَبعه محبوسًا، وقلبُهُ عن كمالهِ الذي خُلِقَ له مصدودًا منكوسًا، قد أسامَ نفسَهُ مع الأنعامِ راعيًا مع الهَمَلِ، واستطابَ لُقَيماتِ الرَّاحَةِ والبطالَةِ، واسْتَلَانَ فِراشَ العجزِ والكَسَلِ، لا كَمَن رُفِعَ له عَلَمٌ فشمَّرَ إليه، وبُورِكَ له في تفرُّدهِ في طريقِ طلبهِ، فَلَزِمهُ واستقامَ عليه، قَد أَبَتْ غَلَباتُ شوقِهِ إلاّ الهجرَةَ إلى الله ورسولهِ، ومقَتَتْ نفسُهُ الرُّفقاء إلاّ ابنَ سبيلٍ يُرافِقهُ في سبيلهِ. (مفتاح دار السعادة 1/ 214، 215).