إن الداعية المسلم هو وارث مهمة خاتم المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله، وفي الدعوة إلى منهجه الحكيم، ليدل الناس أجمعين إلى طريق سعادتهم الحقيقية في الدنيا والآخرة.
وإن كل مسلم يؤدي دوراً من أدوار الدعوة إلى الله، امتثالاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَة» (رواه البخاري)، ففي الحديث تكليف وتشريف وتخفيف؛ تكليف لأنه جاء بصيغة الأمر «بَلِّغُوا»، والأمر يدل على الوجوب، وتشريف لأنه تبليغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «عَنِّي»، وهو أكرم رسُل الله على الله، عليه أفضل الصلاة والسلام، وتخفيف لأنه لا يطالب المسلم إلا بتبليغ ما يعلم، ولو كانت آية من كتاب الله تعالى.
والداعية المسلم ابن زمانه، يوصل رسالة الله للناس، ويلبي حاجات عصره ويجيب عن أسئلة زمانه، امتثالاً لقول الله تعالى: (قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي) (يوسف: 108).
واليوم وفي عالم القرية العالمية الصغيرة، وجد الداعية نفسه أمام تحديات وفرص جديدة فرضها عليه عصره والإعلام الجديد الذي أنتجه، في هذا المقال نحاول أن نقرأ بعض تحديات وفرص هذا الإعلام، وأثرها في تغيير الخطاب الدعوي الإسلامي المعاصر.
إعلام القرية العالمية الصغيرة
كان دخول البشرية في عصر الإنترنت وما تبعه من وسائل التواصل الاجتماعي وتقنيات الذكاء الاصطناعي حدثاً هائلاً في تاريخ الإنسانية، لما أحدثه من تغييرات كبيرة في مختلف جوانب حياتها المادية والمعنوية، ومنها الإعلام.
ففي عصر التقنية والثورة الرقمية، استطاع الإنسان الفرد، وعن طريق جهازه الذكي، أن يختار المحتوى الإعلامي الذي يريد، ويصنعه وينشره، نصاً كان أم صوتاً وصورة، بأقل التكاليف، وبعيداً عن أجهزة الرقابة الرسمية، ليصل بسهولة إلى الملايين من الناس، الذين لهم حق التفاعل مع هذا المحتوى إعجاباً أو رفضاً أو تعليقاً أو مشاركة، ليدخل العالم في عصر التفاعل الإنساني العالمي والقرية الصغيرة.
وعن طريق الذكاء الاصطناعي، استطاعت مواقع وسائل التواصل الاجتماعي أن تحلل وتنتخب لروادها المواد التي تجذبهم وتعجبهم وتتوافق مع سلوكهم على منصاتها، فتطول مدة اتصالهم بها ليكونوا مادة إعلاناتها التجارية، كما رصد ذلك الفيلم الوثائقي الأمريكي «معضلة وسائل التواصل الاجتماعي» (The Social Dilemma).
وقد أثرت هذه التغيرات الإعلامية على حياة الإنسان النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وصنعت فروقاً كبيرة بين الأجيال، مما زاد من صعوبة تقديم المادة الإعلامية والتربوية المناسبة لهم.
تحديات الدعوة إلى الله في عصر العولمة
أن يكون العالم قرية عالمية صغيرة فهذا يعني عولمة المشكلات الإنسانية، وظهور تحديات جديدة ومختلفة أمام الدعاة إلى الله ومنهجه.
ففي عصر الإعلام الجديد، تَعرض كل الأمم البشرية أفكارها، بغض النظر عن قيمتها العلمية والعملية، وتحمل معها الشبهات التي تهاجم الإسلام وأهله، تحت إشراف كبار المستشرقين والملحدين؛ مما يهدد أمن الأمة الإسلامية في بعده العقدي والقيمي والمجتمعي.
وعن طريق الشبكة العنكبوتية انتشرت المواد الإباحية الجريئة والمتجددة، من كل أنحاء العالم إلى كل أنحاء العالم، بأقل التكاليف وأرخص الأثمان، لتَدخل هذه القاذورات إلى البيوت بدون إذن أهلها، وتحرق الشباب بشهواتها؛ مما أضر بالأخلاق والذوق العام والحياة الاجتماعية.
وساهمت التقنية وما يرتبط بها من وسائل في ظهور نظام يرعى التفاهة ويحتضن التافهين، من منصات الرقص والعري إلى الألعاب الإلكترونية، وبات كثير من الشباب يقتل وقته وينتقص حياته، ويقضي عمره في صناعة التافه والهزيل ومتابعته، دون أي قيمة حقيقية له ولمجتمعه.
فرص الإعلام الجديد
ولكن، وفي المقابل، وجد الداعية نفسه أمام إعلام جديد وفضاء مفتوح يوفر له فرصاً مهمة في الدعوة، لم يكن يحلم بها سابقاً.
فقد وفر الإعلام الجديد فرصة الوصول إلى العلماء والمختصين والدعاة في مختلف أنحاء العالم ومن مختلف التخصصات، ليستفيدوا من بعضهم ويتبادلوا خبراتهم، كما وفر لهم فرصة الاطلاع على آراء الناس وأحوالهم لرصد توجهاتهم واحتياجاتهم ومشكلاتهم، كمرحلة أولى لتشخيص الواقع قبل أن التحرك فيه.
وزاد الإعلام الجديد من مساحة الشريحة التي يمكن للداعية أن يصل إليها، في أسرع وقت وأقل جهد وأخفض تكلفة، وصار له أن يقيم أشكالاً مختلفة من برامج الدعوة الإلكترونية على مستوى العالم، من محاضرات وندوات ودورات وصولاً إلى المؤسسات العلمية الجامعة كالمعاهد والجامعات.
الإعلام الإسلامي المنشود
مما لا شك فيه أن هذا الدين برسالته الربانية هو الأقدر على حل مشكلات العصر ورعاية حقوق الإنسان، وواجب الدعاة إليه اليوم أن يحسنوا تقديمه للناس، بأنسب محتوى وأحسن طريقة.
فمن واجب الدعاة اليوم أن يقدموا دينهم للعالمين وفق منهج علمي قويم، يطلب الدين الحق ويبحث عنه، ويقيم البرهان الساطع على صحته، ويرد على شبهات مخالفيه، كما صار من واجبهم فهم خريطة الأفكار في العالم كله بشمول وإنصاف، ليكون المحتوى الدعوي مقبولاً عند منصفي الناس، ويلامس عقولهم وقلوبهم، ويجيبهم عن أسئلتهم ويلبي احتياجاتهم، امتثالاً لأمر الله تعالى: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل: 125).
ومن أبرز الأمثلة على المحتوى الأنسب في هذا العصر تقديم إجابات علمية واضحة بمختلف لغات العالم عن أسئلة الإنسان الوجودية: «من أنا؟ ولمَ خلقت؟ مَن خلقني؟ وماذا بعد الموت؟ وما المنهج الذي يجب أن أسير عليه في حياتي لضمان سعادة العاجل والآجل؟»، وتقديم معالجات إسلامية واعية لمختلف مشكلات العصر، تستمد من الأحكام الشرعية وما يتعلق بها من مقاصد وحِكَم، وتستفيد من المعالجات العالمية والتجارب الإنسانية وفق منهج «الحكمة ضالة المؤمن»، والأمثلة كثيرة والقائمة طويلة.
ثم يقدم هذا المحتوى في صورة عصرية عالمية جذابة تراعي جودة الصوت والصورة، تستثمر في الأفلام والمسلسلات، وفي مجموعة من المنصات، لتغطي مهمة تعليم القرآن وأحكام الإسلام، وتعليم اللغة العربية، والتربية الرقمية، وهذا يحتاج إلى مساعدة ومساندة من عامة السلمين، في بذل الأموال أو في دعم انتشار هذه المواد عن طريق الإعجاب والتعليق والمشاركة.
إن مهمة الداعية اليوم لم تعد سهلة، خاصة في فضاء إعلامي مفتوح لا يحفل القائمون عليه بالإنسان والقيم، ولكن علينا أن نتذكر جيداً أن هذا الإعلام الجديد مجرد وسيلة، يمكن للداعية أن يستفيد من منصاته ليتجاوز تحدياته ويستثمر في فرصه، إن آمن -أولاً وقبل كل شيء- بفكرته، ذلك الإيمان الحار المخلص الذي أشار إليه سيد قطب، رحمه الله، حين قال: «آمن أنت أولاً بفكرتك، آمن بها إلى حد الاعتقاد الحار، عندئذ فقط يؤمن بها الآخرون، وإلا فستبقى مجرد صياغة لفظية خالية من الروح والحياة، لا حياة لفكرة لم تتقمص روح إنسان، ولم تصبح كائناً حياً يدب على وجه الأرض في صورة بشر، كذلك لا وجود لشخص، في هذا المجال، لا تعمر قلبه فكرة يؤمن بها في حرارة وإخلاص» (كتاب «أفراح الروح»).