بذلت الحركة الإسلامية في المغرب جهوداً مقدرة في حماية التراث الإسلامي والتصدي للهجوم الذي يتعرض عليها، كما يُجمع خبراء، في حديث لـ«المجتمع»، لكن في الوقت ذاته ينظرون إلى تلك الجهود بنظرة نقدية بخصوص جوانب أخرى.
في البداية، يقول المفكر المغربي محمد يتيم، وهو وزير سابق ورئيس سابق لحركة التوحيد والإصلاح: إن هذا التراث يمكن أن نميز فيه بين أصوله ومرجعياته الأساسية، ونقصد بذلك الوحي المنزَّل من الله تعالى والسُّنة النبوية.
ويدخل في التراث أيضاً حصيلة ما نتج من فهم وأفكار وإنتاج معرفي، بل وتقاليد اجتماعية في ظل مجتمعات إسلامية، وما يصطلح عليه أيضاً بالثقافة الإسلامية وكل أشكال التعبيرات الأدبية والمعرفية والعادات والتقاليد ولغات الشعوب الإسلامية، والتغييرات المعمارية والتقاليد التي أنتجتها في احتفائها بالمناسبات الدينية والاجتماعية.
وتبعاً لذلك، يضيف يتيم، يشمل التراث ما هو ثابت، وفيه ما هو متغير، وفي هذا المتغير هناك ما هو متطابق مع أصول الإسلام من كتاب وسُنة وغيرها من أصول التشريع كما هي معرفة عند الأصوليين، وفيه ما هو تعبير عن موروثات ثقافية تجد أصلها في مرحلة سابقة على اعتناق هذا الشعب أو ذاك، وتدخل أيضاً في العلوم الإسلامية المختلفة والمعمار والفنون.
يتيم: الحركات الإسلامية كان لها دور كبير في تجديد التراث الإسلامي.. ولكنها أهملت جوانب مهمة منه
بدوره، يميز الأكاديمي المغربي إمحمد الهلالي بين التراث ببعد مادي وآخر ببعد لا مادي، مبرزاً أن هناك فرقاً بين حماية هذا التراث والمحافظة عليه بمنع وصول ما يمكن أن يتلفه أو يبدده، لكن فعل الحماية يتضمن إلى جانب أفعال المحافظة ما يضمن استدامة هذا التراث وأداءه لأدواره وتواصل فاعليته في الحياة.
دور إيجابي
وقد نجحت الحركة الإسلامية، إلى حد كبير، في المحافظة على بقاء التراث حاضراً في وعي الأمة، وفي السياسات والبرامج العمومية، وساهمت بشكل أكبر في إخراج نفائس تراثية ذات قيمة عالية مما أنتجته الأمة من معارف في مختلف مجالات العلوم الدينية والدنيوية، بحسب الهلالي.
فيما يشير محمد يتيم إلى أن الحركات الإسلامية كان لها دور كبير في تجديد التراث الإسلامي؛ بمعنى تقديم فهم وممارسة إحيائية، وأيضاً في التدافع حماية له من الهجوم عليه.
ومن الأمثلة التي يمكن تقديمها في هذا الشأن ما سمي بـ«الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية»، التي أعدها وزير شيوعي فيما يسمى بـ«حكومة التناوب»؛ حكومة عبدالرحمن اليوسفي بقيادة حزب الاتحاد الاشتراكي، وهي خطة كانت تهدف إلى تنزيل توصيات مؤتمر بكين التي تقوم على فلسفة «الجندر» (النوع) الذي يبدو في ظاهره فكرة تسعى إلى التمييز الإيجابي لفائدة المرأة بسبب ما لحق بها من تمييز وظلم وحيف أهدر حقوقها وكرامتها، ولكن في جوهرها تنتهي إلى إلغاء الفوارق الفطرية بين الجنسين، وهي فوارق وظيفية تنتهي عند التأمل لإقرار التكامل بينهما في إطار نظام الأسرة.
ويبرز يتيم أن هذه معركة فكرية وثقافية وإعلامية وسياسية، وقد حسمت مسيرة مليونية القضية لصالح الأسرة والقيم الإسلامية الحاكمة لها.
ومن القضايا الكبرى التي خاض فيها ممثلون عن الحركة الإسلامية وغيرهم من الشخصيات الوطنية الأصيلة قضايا تتعلق بإصلاح النظام التعليمي، حيث عرفت لجان إصلاح التعليم أو المجلس الأعلى للتعليم بعد ذلك حضوراً قوياً لممثلي الحركة الإسلامية وتصديها لكل المحاولات التي تحاول «علمنة» التعليم.
الشيء نفسه حدث حول التدافع داخل المؤسسة التشريعية سواء من خلال سن قوانين تسير في خدمة الصالح العام وتحتكم إلى توجهات دستور عام 2011م الذي أكد المرجعية الإسلامية ومكانتها في التشريع وفي تدبير الشأن العام.
الهلالي: بوادر صحوة جديدة في الأجيال الحالية تدعو إلى التصالح مع الفنون وأساليب الحياة
وفي مجال المحافظة على المعمار الثقافي، أسهم مهندسون مغاربة يحملون الفكرة الإسلامية الحضارية في المحافظة على التراث المعماري لبعض المدن، ومنها على سبيل المثال مدينة فاس، ولا ننسى عبد اللطيف الحجامي، رحمه الله، الذي يعتبر رائداً معمارياً من رواد نهضة أمتنا.
نقائص
لكن، في المقابل، الحركة الإسلامية أهملت جوانب مهمة من التراث، وفي هذا الصدد يبرز محمد يتيم أن بعض التعبيرات الحركية الإسلامية كانت تتكلم مع التراث بمنهج القطيعة أو مسح الطاولة لكل الموروث، إلى درجة أن بعضها كاد أن يمسح الجزء الأكبر من التاريخ الإسلامي، على اعتبار أن المرحلة الإسلامية الحقيقية هي فترة الخلافة الراشدة فحسب، وكاد البعض أن يخرج من الحضارة الإسلامية عدة حقب وتجارب، وهو نهج فيه من الغلو ما فيه؛ إذ إن الإسلام حضارة وثقافة وتاريخ وحركات إصلاح وبعث متجدد، كما أن فيه مراحل ضعف وعدم تحضر.
ويضيف يتيم أن الإسلام أيضاً عطاء جهادي مقاوم للغزو، وتراث علمي وفكري ومعماري، يعبر عن الشخصية الإسلامية وتفاعلها من منطلق مرجعيتها ورؤيتها للكون مع عدد من الأحداث والوقائع والتطورات، كما أنه دعوة وفكرة ومنظومة عقدية وأخلاقية أعادت صياغة الشخصية الثقافية لشعوب بكاملها.
لكن، وللأسف، شنت بعض فصائل من الحركة الإسلامية حرباً على عدد من التعبيرات الإسلامية حرب إبادة، بدل أن تعمل على استيعابها وترشيدها، على عدد من التقاليد في المجتمعات الإسلامية، وكذلك على بعض التقاليد التي كانت سائدة لدى شعوب قبل دخولها الإسلام، كما يلاحظ محمد يتيم.
بدوره، يرى الهلالي أن ثمة مجالات من التراث، وخاصة التراث اللامادي الثقافي والعمراني، لم تعره الحركة الإسلامية الاهتمام اللازم، بل يمكن أن نقول: إنها ارتكبت في حقه أخطاء فادحة عندما سعت إلى تنميط أساليب الحياة ومناهج العيش بدعوى احترام السُّنة، خاصة من الملبس والمأكل والفنون، وحتى في مجال التدين؛ إذ قضت على خصوصيات دينية وتعبدية باسم اللامذهبية أو اتباع السُّنة على فهم مدرسة واحدة.
دعوة مصالحة
وفي خلاصة، يبرز الهلالي أن الحركة الإسلامية إلى حدود نهاية القرن الماضي قد قدمت خدمة كبيرة للتراث في بعده المعرفي، لكنها أهملت كثيراً التراث اللامادي، خاصة في بُعده الثقافي والرمزي والعمراني، وارتكبت أخطاء جسيمة فيما يخص التراث الفني والأدبي والغنائي.
لكن يعود ليقول: إنه وابتداء من مطلع الألفية يمكن القول: إن بوادر صحوة جديدة قد ظهرت في صفوف الأجيال الجديدة من الإسلاميين، وهي صحوة تدعو إلى التصالح مع الفنون ومع أساليب الحياة وأنماط العيش كما تكرست وتراكمت عبر قرون، سواء في طريقة العيش أو في السلوكيات والممارسات واللباس وفي المناسبات وفي والآداب والمعاملات اليومية، والأهم في مظاهر التدين وفي الأعراس والمآتم ولغات التخاطب في التهاني والتعازي والمواساة.
وفي السياق ذاته، يدعو محمد يتيم الحركات ومفكريها لإعادة التصالح مع هذا الموروث الثقافي الإسلامي ومع التدين الاجتماعي وربط الصلة به وترشيده، وعدم الاصطدام مع التقاليد الموروثة والتدين الشعبي، بل العمل على ترشيده وربطه بأصوله لتصحيحه بالتي هي أحسن، والعمل على التوعية والإرشاد لإصلاح ما اعوج فيه من الفهم أو الممارسة.