أرسل الله الحبيب محمدًا ليكون للعالمين نورًا وضياءً وقدوةً، فهو القرآن الذي أنزله الله تعالى في صورته العملية، كما وصفته أُمُّنَا عائشةُ رضي الله عنها، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: سُئِلَتْ عَائِشَةُ عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَتْ: «كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ»؛ أي أن حركاته وسكناته وكل أفعاله كانت قرآنًا، وكما ذكر بعض العلماء كان قرآنًا يمشي على الأرض.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو خير من مشى على الأرض قاطبة، وهو سيد ولد آدم عليه السلام، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ، وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ، وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ، وَلَا فَخْرَ، وَلِوَاءُ الْحَمْدِ بِيَدِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا فَخْرَ».
فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتمتع بكل هذه الصفات وتلك الأخلاق، أيكون لعاقل مهما كان أن يقتدي بأحد غيره، أو تكون له أسوة سواه؟! كيف ذلك والله تعالى أرسله لنا نورًا، وهاديًا، ومبشرًا، ونذيرًا، وسراجًا منيرًا، وداعيًا لكل خير؟! قَالَ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً {45} وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً {46} وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً﴾ (الأحزاب)، وقال تعالى: ﴿قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ﴾ (المائدة: 15)، قال الإمام الطبري: يعني بالنور محمدًا صلى الله عليه وسلم الذي أنار الله به الحقَّ، وأظهر به الإسلام، ومحق به الشرك، فهو نور لمن استنار به يبيِّن الحق، ومن إنارته الحق، تبيينُه لليهود كثيرًا مما كانوا يخفون من الكتاب.
بل إن الله سبحانه وتعالى يوجهنا توجيهًا مباشرًا للاقتداء به صلى الله عليه وسلم، فيقول: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ (الأحزاب: 21)، ومن هنا حق لنا، بل ووجب علينا أن نقتديَ برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن كيف؟ وفيم نقتدي به؟ قال الإمام ابن كثير: هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ أَصْلٌ كَبِيرٌ فِي التَّأَسِّي بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْوَالِهِ؛ وَلِهَذَا أُمِرَ النَّاسُ بِالتَّأَسِّي بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ، فِي صَبْرِهِ وَمُصَابَرَتِهِ وَمُرَابَطَتِهِ وَمُجَاهَدَتِهِ وَانْتِظَارِهِ الْفَرَجَ مِنْ رَبِّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ دَائِمًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
وأول ما يمكن فعله للاقتداء به هو حبه، حبًا يفوق حب الوالد والولد والناس أجمعين، بل يفوق حب النفس، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ».
وعن أَبِي عَقِيلٍ زُهْرَةِ بْنِ مَعْبَدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ جَدَّهُ عَبْدَاللَّهِ بْنَ هِشَامٍ، قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ»، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّهُ الآنَ، وَاللَّهِ، لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الآنَ يَا عُمَرُ».
ثم طاعته فيما أمر، قال تعالى ﴿مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ (النساء: 80)، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ: «مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى».
ومن ثَمَّ نقتدي به في عبادته لربه، فهو خير من عبد الله تعالى، وهو الذي عَلَّمَنَا عبادة الله عز وجل، وهو الذي بَلَّغَنَا عن الله تعالى ما يحب أن يُعْبَدَ به، فوجب علينا وجوبًا عينيًا أن نتبعه في كل صور العبادة، فَعَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: «قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ»، ثُمَّ تَلَا: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ إِسْوَةٌ حَسَنَةٌ)، ومخالفته في أمور العبادة ابتداع لا يقبله الله عز وجل، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ، فَهُوَ رَدٌّ»، وعند مسلم عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ».
ثم نقتدي به في أخلاقه صلى الله عليه وسلم، والأخلاق هي كل شيء في دين الله تعالى، ومن ذلك كيف تعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المخلوقات؟ مع الإنس والجن، مع الحيوانات والجمادات، مع النباتات والرياح، مع المؤمن والكافر، وفي كل ذلك له صلى الله عليه وسلم هدي يُتَبَع، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ»، وفي رواية أخرى «مكارم الأخلاق».
ثم الاقتداء به في كل سننه التي سنها لأمته، واتباع هديه الظاهر، بل واتباع كل ما كان يفعله صلى الله عليه وسلم في حياته، فهو يعلم ما يحبه الله من الأفعال والأقوال.