يقول الله سبحانه: (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (النحل: 125).
ومن الحكمة في عصرنا اتخاذ الأساليب العصرية لتحقيق هدف الدعوة، يعاني كثير من دعاة وخطباء المساجد في بلادنا العربية من هيمنة للأساليب النمطية في تقديم الدعوة، وعدم إلمام بمستحدثات العصر سواء على مستوى تقنية المنابر الجديدة أو تطوير ملكات الداعية ذاته، ووسائله الإقناعية، بل والموضوعات التي يشتبك فيها مع هموم الشباب من أبناء هذا الجيل.
الداعية.. والتواصل الاجتماعي
مؤخرًا، ناقش المؤتمر الدولي الرابع والثلاثون لوزارة الأوقاف المصرية موضوع «الفضاء الإلكتروني والوسائل العصرية للخطاب الديني»، ومن بين المتحدثين اقترح الخبير الخضر عبدالباقي، مدير المركز النيجيري للبحوث العربية، أن نركز جهودنا في الأحكام المتعلقة بمنصات التواصل الاجتماعي، فالوسائط تحمل أحكام الأهداف التي جاءت لتلبيتها، ومن هنا فنحن أمام الاستخدام الاستهلاكي؛ وهو التعاطي الذي يقتصر فيه الفرد على الولوج إلى منصات التواصل الاجتماعي لمجرد المشاهدة والاطلاع وإشباع فضوله، والاستخدام التشاركي؛ وهو التعاطي الذي ينخرط معه الفرد في عملية صناعة المحتوى للمنصة.
وفي كـــلا الاستخـدامين يتحقق الفعل التفاعلي، وتثبت فيهما المسؤولية على الفرد ولو بدرجات متفاوتة، في دعم تلك المنصات وممارسة دور المنشئ لمحتواها؛ لذا فإن الضابط الشرعي هو أن يكون استخدام الفرد أو الداعية للوسيلة الإعلامية محققاً للمصلحة الشرعية المعتبرة والراجحة، واعتبار المآلات وما ينعكس على البرنامج الذي يضعه من فوائد ومضار، والأخذ في الاعتبار السياق الذي أنشئت المنصة لأجله، وإبراز الموقف الرافض دونما مواربة لكل المظاهر الاجتماعية الخاطئة، فهنا يعلن الداعية قناعاته المبنية على قواعد شرعية، ويحقق شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع التركيز في وجود ضوابط شرعية لاستخدام الصور الشخصية، وأن تكون الممارسات التواصلية للداعية في نطاق عمله وليس على حساب واجباته الأولى، ولا أن تكون خارج سياق الدعوة.
العلوم الشرعية.. عن بُعد
لقد أصبح لزامًا حتى على الأساتذة الأكاديميين أن يجيدوا فنون تعليم الطلاب عن بُعد، ويرى د. محسن محمد، رئيس قسم الشريعة في جامعة الفيوم، أن لتعلم العلـوم الشرعيــة عبــر الفضـاء الإلكتروني ميزات كثيرة، منها: مرونة التعلم، والتحفيز على إبداء الرأي دونما حرج، والتشجيع على العمل الجماعي، ومراعاة الفروق الفردية بين الطلاب، وهؤلاء الذين لا يمكنهم الحضور بانتظام، وتعدد طرق التدريس، وتنمية القدرات الفكرية.
ويرى بعض الخبراء أن أسلوب الدعوة التقليدية بات ضعيفاً في توصيل المعلومة الدينية والشرعية، فجب أن نخوض غمار الوسائل غير التقليدية من الأفلام والرســوم ثلاثيـة الأبعـــاد والمحاكاة ببرامج الذكاء الاصطناعي؛ حيث تعمل «الأفلمة» على إثراء التصوير للمشاهد القصصية والأحداث التاريخية؛ مما يؤدي إلى اتصال حلقة الماضي والمستقبل، وإحياء السنن.
ولو ضربنا أمثلة بملفات مثل الزواج والطلاق والخلع من الممكن أن تؤثر على الأمن القومي العربي، فهي تحتاج لمعالجة حكيمة منضبطة مع الشرع ومع العصر.
إندونيسيا.. تطبيق عملي لعصرنة الدعوة
في دراسة حديثة عن «الدعاة وتحديات التغيير الاجتماعي»، يقوم كل من توني هارتون، وماسدوكي، من كلية الدعوة والاتصال الإندونيسية، بتطبيق حاجة المجتمع للدعوة العصرية المستندة لوسائل الاتصال الحديثة، باعتبار أن الدعوة عملية تغيير اجتماعي تهدف لتحسين حياة الناس استناداً إلى الدين، وقد أصبح ذلك ضرورة في ظل ما تواجهه الأجيال الجديدة من قيم متنافرة مع الإسلام وتحض على الرذيلة، كما تبرز الحاجة لأن يعمل الإسلام بقيمه العظيمة كقوة عظيمة لدفع الشباب ذاتياً نحو النجاح والفاعلية في مجتمعاتهم.
ولهذا، فإن المقترح بأن يحمل الداعية أو الواعظ الديني شهادة تؤكد احترافيته ليس في مجال الجوانب الشرعية فحسب، بل فنون الدعوة العصرية ووسائلها، وهو أسلوب حديث ينتهجه مجلس العلماء الإندونيسي، كما تنتهجه مجموعات محلية في إندونيسيا كمثال حالة باسم «PMD»، وتتركز في مدينة دوماي، إضافة لتجنب الداعية المضامين التي تحض على الكراهية، والخلاف والجدل بلا طائل، مثل الحديث في قضايا الخلافة وكراهية الآخر غير المسلم.
خذ الكتاب بقوة
إن الدعوة إلى الله رسالة الأنبياء والصالحين من بعدهم، وبحاجة إلى رجل له من ميراث يحيى عليه السلام نصيب؛ فقد أمره الله بقوله: (يَا يَحْيَى خذ الكتاب بِقُوَّةٍ) (مريم: 12)، والقوة اليوم هي الوسائل العصرية من وسائل اتصال وتكنولوجيا، ودراسة موضوع الدعوة وجوانبها العصرية والاشتباك مع هموم المسلمين، والتواصل معهم عبر قنوات جديدة، والتفاعل أخذاً ورداً.
كما أن الداعية عليه استلهام العبرة من هدهد سليمان عليه السلام، وكيف شكل جهازاً إعلامياً متكاملاً ساهم في إسلام مملكة سبأ اليمنية، بدقة الملاحظة ومعرفة ثقافة الآخر وقوة الحجة، والدعوة ليست فقط خطابة فوق المنابر؛ بل دعوة بالقدوة الشخصية، والقدوة المجتمعية عبر تقديم الخدمات والعون للناس.
والداعية الحقيقي هو الذي يشرع الأبواب أمام السائلين لفهم الإسلام وتشرب حكمته والاقتناع بها والولاء لها؛ بدلاً من أولئك الذين يتشددون فيما فيه سعة، ويضيقون واسعًا، فيمضي الخلق عنهم متوهمين أن ذلك من أصل الدين والدين منه براء.
يقول العلَّامة النابلسي: لقد أصبح أمراً مفروغاً منه أن يلمّ الداعية بقضايا الإعجاز العلمي، لا سيما في العصر الحديث الذي يستلزم خطاباً عقلياً باتجاه الغرب، مصداقاً لقول الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ) (إبراهيم: 4)، ولسان القوم ليس فقط اللغة التي يتكلمون بها، وإنما لغة العصر، فلسان العرب يوم جاءهم وحي السماء كان اللغة والشعر فتحدّاهم القرآن الكريم بلغتهم، ولسان قوم موسى عليه السلام كان السحر فجاءهم بخوارق قضت على إفكهم، ولسان قوم عيسى عليه السلام كان الطب فجاءهم بخوارق يعجز عنها الطب.
وميزة القرآن الكريم في كونه تحدياً أبدياً في الإعجاز المعنوي وليس المادي فحسب، لكن ذلك يحتاج لجهد من الداعية العصري في دراسته وتدبره ونشر اليقين به في القلوب.