في عام 2017م، صدر كتاب «نظام التفاهة» للمفكر والأستاذ في الفلسفة والعلوم السياسية الكندي «ألان دونو»، وقد ترجمته وعلَّقت عليه الأستاذة في القانون الخاص بكلية الحقوق- جامعة الكويت د. مشاعل عبدالعزيز الهاجري، عام 2020م، وهو كتاب لافت في عنوانه، شيق في مضمونه، جريء في أطروحاته، يمكن تصنيفه ضمن أدبيات «ما بعد الحداثة»، التي تهتم بنقد مآلات الحداثة الغربية، حيث انحدرت إلى تضخم النزعة المادية والاستهلاكية، وإلى «تشييء» الإنسان وتسليعه، بدلاً من تحريره وصون كرامته.
والكاتب كما تقول المترجمة: صاحب عقل متدفق، وهو ثائر غاضب وحادّ، فهو من أشد المناهضين للرأسمالية المتوحشة، وقد ألَّف كتابه هذا كنوع من القلق على مستقبل الإنسانية، مؤكداً واقعاً مريراً؛ «لقد تبوَّأ التافهون قمة السلطة»، وأن الفكرة المركزية له أن البشرية تعيش مرحلة مأساوية وغير مسبوقة في تاريخها المعاصر، وذلك بسبب سيطرة التافهين على مفاصل الحياة، وهو بذلك يدق ناقوس الخطر من تحكمهم في أدوات السلطة وسيطرتهم على وسائل التأثير، وأننا محاطون بقدر كبير من العبثية واللامبالاة.
وقد غَزَت هذه التفاهة ميادين شتى، منها: الحياة اليومية والرياضة والفن والتكنولوجيا والإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، بل وزحفت نحو السياسة والاقتصاد وعالم المال والأعمال، بل ولم تستثن الميادين المقدسة؛ الدينية والتعليمية والأكاديمية والبحثية.
«نظام التفاهة» تسبب في آثار مدمرة لشخصية الإنسان في ضميره وحريته وإرادته وعمَّق تمزقه الفكري والنفسي
وقد أصبحت للتفاهة هيكليةٌ بنيوية منتشرة في كل أنحاء العالم، وهي تضرب بجذورها الناعمة أعماق الأفراد والجماعات والشعوب والدول بهدوء وإصرار، ويلاحظ –حسب المترجمة– الصعود الغريب للقواعد التي تتسم بالرداءة والانحطاط، فتدهورت الجودة العالية، وغُيِّب الأداء الرفيع، وهُمِّشت منظومة القيم، وبرزت الأذواق المنحطة، وأُبعِد الأكفاء النُّزهاء.
كما ألَّف د. حجاج محمد عطية كتابه «زحف التفاهة.. قراءة في عبثية الواقع المعاصر وسبل الخروج منها»، وكانت طبعته الخاصة بالمؤلف عام 2023م، وقد دفعه للكتابة حول هذا الموضوع أن «التفاهة» مرحلة من مراحل التدهور إلى قاع الهاوية الحضارية، وهي المرحلة التي يتم فيها تغييب الإنسان عن حقيقة وجوده، بمسخ هويته وتزييف معتقداته وتعطيل فاعليته والنيل من عزيمته، وأن زحف التفاهة ممنهج، له سدنته ورعاته، وأن مرآة التفاهة تعكس تطوراً خطيراً في زمن السنوات الخدَّاعات، حيث يُلَبَّس العظيمُ ثوبَ الحقير، والخسيس ثوب الأصيل، والكاذب ثوب الصادق، والخائن ثوب الأمين، وقد جاء في الحديث النبوي الشريف: «ستأتي على الناس سُنونٌ خدَّاعةٌ، يُصدَّق فيها الكاذب، ويُكذَّب فيها الصادق، ويُؤتمن في الخائن، ويُخوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة»، قيل: وما الرويبضة؟ قال: «الرَّجل التَّافه يتكلَّم في أمر العامَّة».
وقد حاول الكاتب محاكاة كتاب «نظام التفاهة» ليتحدث بنَفَسٍ إسلامي عن ميادين «التفاهة»، وكأن هذا النظام يجسِّد الوعيد الشيطاني للنوع الإنساني بالحصار الشامل، وذلك بالقسم على الغواية، والإصرار على التفاهة في قوله تعالى: (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ {16} ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) (الأعراف)، فتحدَّث عن:
– التفاهة في ميدان الدعوة: وأن غمامة التفاهة قد أظلَّتها في المستوى الهزيل والتكوين الهش للبناء العلمي والأخلاقي والروحي للداعية، وفي عمل الداعية، حيث تحولت الدعوة من فكرة نبيلة إلى لقمة للعيش، ومن رسالة سماوية مقدسة إلى وظيفة دنيوية مدنسة.
– وفي ميدان العلم: تم تسليع العلم و«تشييء» المعرفة، فصار العلم لمن يدفع، وانتهت جهود المؤسسات التعليمية لمن يموِّل، فتحولت إلى ساحة للهوس بالنقاط ومجرد الحصول على الدرجات العلمية كأدوات للوجاهة الاجتماعية، وكشهادات فارغة من البعد الأخلاقي والحضاري والرسالي، بل تحولت «المعرفة» إلى سلعة، و«الإنتاج العلمي» إلى مجرد مكاسب مادية، واختُزل «الإنتاج الفكري» في عالم الأشخاص والأشياء، وقد قال مالك بن نبي (1905 – 1873م): «فِكْرُنا خاضع لطغيان الشيء والشخص، وهذا السبب سيختفي عندما تستعيد الأفكار سلطانها في عالمنا الثقافي».
– وفي ميدان الرياضة: وما فعله كهَنَتُها في مجتمعاتنا الساذجة، حتى أصبحت طاغوتاً ساحراً، وحالات مرضية تشغل الرأي العام بالأرقام الخيالية التي تحلِّق فوق سماء العقل فيما يتعلق بالمتابعات والاهتمامات والصفقات وأسعار اللاعبين، وأصبح مشاهيرها نجوماً آسِرة ومحلَّ قدوة على حساب الرموز والقدوات الحقيقية!
– وفي ميدان التكنولوجيا: التي أصبحت وسيلة لاستعباد الإنسان، قد ارتبطت بها كل تفاصيل حياته حتى سلبته السلام النفسي الذي يعيشه الأحرار، وجعلت منه عصبياً متوتراً، غادرت سماءَه ظِلالُ الطمأنينة لصالح غيوم القلق والاضطراب.
السبيل إلى الخلاص من «التفاهة» تحصين الإنسان روحاً وعقلاً وجسداً واستعادة القيم الإسلامية والإنسانية
– وفي ميدان الإنترنت: وهو ميدان الهروب من الواقع، قد ألقى بأجيال بأكملها في متاهات كبيرة من التفاهة، وصنع إلهاً جديداً من السفاهة، يتسبب في العزلة الاجتماعية، والعيش في عالم وَهْمي، بصفات متنامية من الكسل والخمول وضياع الأوقات والصلوات وحرق الأعصاب، والغرق في بحور من الشائعات، ومستنقع نتن من الإباحية والرذيلة، فأصبح المحتوى الهابط محلَّ «الترندات» بالجهاد المقدس للتفاعلات من الإعجابات والتعليقات والمشاركات والمشاهدات، حيث أُتيحت مواقع التواصل الاجتماعي لغزوات البلهاء، والنشر الإباحي للحمقى.
– وعن ميدان الفن: الذي يُفترض فيه أنه رسالة حضارية هادفة، ومرآة عاكسة للمجتمع في تربية النشء وغرس القيم وحماية الفضيلة وتنمية المشاعر الإنسانية الراقية، إلا أن جزءاً كبيراً تحول إلى ساحة للتفاهة في انتفاخ موهوم من القذارات والسخافات التي أفسدت الأذواق وشوَّهت الفطرة، بالتصدير الممجوج للعري والفحش والخيانة.
– وعن ميدان الحياة اليومية: التي تعطلت فيها كوابح الغريزة وجنون الاستهلاك وعظمة التملُّك على إيقاع صخب الرفاهيات والكماليات، وضجيج الملهيات والشهوات، وقد جاء في الحديث النبوي الشريف: «ما ملأ آدميٌّ وعاءً شراً من بطنه..»، وقد خلَّد التاريخ مقولة اقتصادية خالدة لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، ليست من أساطير الأولين: «أكُلَّما اشتَهَيْتُم اشتريتم!».
وبغياب النظرة الكلية الحقيقية عن الدنيا يقع الفرد ضحية طاحونتها التي لا ترحم مَن يقع تحت وطأة رحاها، وقد حولت الأحرار إلى عبيد، والحديث النبوي يصرخ في وجوههم: «تَعِسَ عبدُ الدِّينَارِ، وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ، وَعَبْدُ الخَمِيصَةِ، إنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وإنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ..».
إنّ «نظام التفاهة» تسبب في آثار مدمرة لشخصية الإنسان في ضميره وحريته وإرادته، وعمَّق تمزقه الفكري والنفسي، وزَيَّف مصادر الطاقة الحقيقية لروحه وعقله، واعتدت على آدميته وإنسانيته، مما أفقده الشخصية المتكاملة المستقلة والقوية، وقد ورد في الحديث الشريف: «لا تكونوا إمَّعة، تقولون: إنْ أحسن الناسُ أحسنَّا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطِّنوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تُحسِنوا، وإنْ أساؤوا فلا تظلموا».
إن انفجار «التفاهة» هي من انقلاب الأحوال في آخر الزمان، وهي علامة من علامات الساعة، وقد جاء في الحديث أيضاً: «لا تقومُ السَّاعةُ حتَّى يكونَ أسعَدَ النَّاسِ بالدُّنيا لُكَعُ ابنُ لُكعَ»؛ واللُّكع هو اللَّئيم الذي لا يُعرف له أصل، ولا يُحمد له خُلُق، فهو وصف يُطلق على الحُمق والذَّم؛ أي على الصغير في العلم والعقل.
والسبيل إلى الخلاص من نظام التفاهة وعالَم الرُّويبضة هو تحصين الإنسان في روحه وعقله وجسده، واستعادة منظومة القيم الإسلامية والإنسانية، وتعزيز مناعة الأسر والمجتمعات، واستعادة مؤسسات التربية والتكوين والتنشئة دورها في محورية بناء الإنسان الرِّسالي، والاستثمار الفعلي في الواقع الحقيقي للحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للشعوب والدول.