يقول العصرانيون ومن يسير في فلكهم: «قسَّم العلماء السُنَّة إلى تشريعية وغير تشريعية، ونحن مطالبون بالتشريعية، ولا علاقة لنا بغير التشريعية؛ حيث إنها تتعلق بذات الرسول صلى الله عليه وسلم»!
تفنيد هذه الشبهة وبيان بطلانها
المبدأ الذي قسَّم العصرانيون على أساسه السُّنَّة إلى تشريعية وغير تشريعية هو التمييز بين بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم ونبوته، وهذا مبدأ التقى فيه العصرانيون المنتسبون إلى الإسلام مع أمثالهم من اليهود والنصارى، ولعل لليهود والنصارى عذرهم في الذهاب إلى هذا المبدأ؛ لأن رجال الدين عندهم زعموا أن كل ما يصدر عنهم هو وحي من عند الله، وادعوا العصمة لأنفسهم، بل وبلغ التطرف نهايته في النصرانية عندما ادعوا ألوهية المسيح عليه السلام؛ ولهذا كانت المطالبة بفصل ما هو إلهي ومصدره الله، عما هو بشري ومصدره البشر؛ وذلك لإزالة القدسية عن رجال الدين، واعتبارهم كسائر البشر، واعتبار آرائهم وتفسيراتهم للدين آراء بشرية تخضع للنقد وتقبل الخطأ والصواب.
وقد أخذ العصرانيون هذه الفكرة -اليهودية النصرانية- ورأوا وجوب التمييز بين بشرية النبي صلى الله عليه وسلم التي ليست معصومة مما يتعرض له البشر، وبين نبوته التي هي وحي من الله، ويريدون من خلال هذا الطرح تفريغ السُّنَّة من محتواها التشريعي!
أقوال العلماء في التمييز بين بشرية الرسول ونبوته
والعلماء قديماً تحدثوا في جانب التمييز بين بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم ونبوته؛ ولكنهم لم يذهبوا إلى ما أراده العصرانيون من هذا التمييز.
قال الشيخ عبدالوهاب خلاَّف يرحمه الله تحت عنوان «ما ليس تشريعًا من أقوال الرسول وأفعاله»:
1- ما صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقوال وأفعال، إنما يكون حجة على المسلمين واجبًا اتباعه، إذا صدر عنه بوصفه أنه رسول الله، وكان مقصودًا به التشريع العام والاقتداء؛ وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنسان كسائر الناس، اصطفاه الله رسولًا إليهم، كما قال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ) (الكهف: 110).
2- أما ما صدر عنه بمقتضى طبيعته الإنسانية من قيام وقعود، ومشي ونوم، وأكل وشرب فليس تشريعًا؛ لأن هذا ليس مصدره رسالته، ولكن مصدره إنسانيته، لكن إذا صدر منه فعل إنساني ودل على أن المقصود من فعله الاقتداء به كان تشريعًا بهذا الدليل.
3- ما صدر عنه بمقتضى الخبرة الإنسانية والحذق والتجارب في الشؤون الدنيوية، من اتجار، أو زارعة، أو تنظيم جيش، أو تدبير حربي، أو وصف دواء لمرض، أو أمثال هذا، فليس تشريعًا أيضًا؛ لأنه ليس صادرًا عن رسالته، وإنما هو صادر عن خبرته الدنيوية وتقديره الشخصي، ولهذا لَمَّا رأى في بعض غزواته صلى الله عليه وسلم أن ينـزل الجند في مكان معين، قال له بعض صحابته: أهذا منزل أنزلكه الله أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال: «بل هو الرأي والحرب والمكيدة»، فقال الصحابي: ليس هذا بمنزل، وأشار بإنزال الجند في مكان آخر لأسباب حربية بَيَّنها للرسول، ولما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم أهل المدينة يؤبِّرون النخل أشار عليهم ألا يؤبِّروا، فتركوا التأبير (يعني التلقيح)، وتلف الثمر، فقال لهم: «أبِّروا، أنتم أعلم بأمور دنياكم».
4- وما صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ودل الدليل الشرعي على أنه خاص به، وأنه ليس أسوة فيه فليس تشريعًا عامًّا، كتزوجه بأكثر من أربع زوجات؛ لأن قوله تعالى: (فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ) (النساء: 3)، دلَّ على أن الحد الأعلى لعدد الزوجات أربع، وكاكتفائه في إثبات الدعوى بشهادة خُزيمة وحده؛ لأن النصوص صريحة في أن البيِّنة شاهدان.
ويُراعى أن قضاء الرسول صلى الله عليه وسلم في خصومة يشتمل على أمرين: أحدهما إثباته وقائع، وثانيهما: حكمه على تقدير ثبوت الوقائع، فإثبات الوقائع أمر تقديري له وليس بتشريع، وأما حكمه بعد تقرير ثبوت الوقائع فهو تشريع؛ ولهذا روي البخاري عن أم سلمة أن النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ سَمِعَ جَلَبَةَ خِصَامٍ عِنْدَ بَابِهِ، فَخَرَجَ عليهم فَقالَ: «إنَّما أنَا بَشَرٌ، وإنَّه يَأْتِينِي الخَصْمُ، فَلَعَلَّ بَعْضًا أنْ يَكونَ أبْلَغَ مِن بَعْضٍ، أقْضِي له بذلكَ وأَحْسِبُ أنَّه صَادِقٌ، فمَن قَضَيْتُ له بحَقِّ مُسْلِمٍ فإنَّما هي قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ، فَلْيَأْخُذْهَا أوْ لِيَدَعْهَا»(1).
والخلاصة؛ أن ما صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقوال وأفعال في حال من الحالات التي بينَّاها، فهو مِنْ سُنته، ولكنه ليس تشريعًا ولا قانونًا واجبًا اتباعه، وأما فيما صدر من أقوال وأفعال بوصف أنه رسول ومقصود به التشريع العام واقتداء المسلمين به فهو حجة على المسلمين، وقانون واجب اتباعه(2).
وهكذا يتضح لنا أن ما صدر من الرسول صلى الله عليه وسلم من أفعال بمقتضى جبلته البشرية وطبيعته الإنسانية، مثل حركات الجسم، وتصرفات الأعضاء، أو القيام أو القعود، من السُّنَّة غير التشريعية.
وفي حقيقة الأمر أن في هذا النوع من أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم نوعاً من الاشتباه، يوقع بعض الناس في اللَّبس، وممن شرح هذا الأمر شرحًا وافيًا الإمام الشوكاني، فأوضح أن هذا النوع من الأفعال ليس فيه أسوة أو قدوة ولا يتعلق به أمر باتباعه أو نهي عن مخالفته، ولكن مع ذلك فإن هذه الأفعال تدل على إباحتها، والإباحة من الأحكام الشرعية(3).
وقسَّم الإمام القرافي تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أنواع: تصرفات بوصفه رسولًا، وبوصفه مفتيًا، وبوصفه قاضيًا، وبوصفه إمامًا (رأس دولة)(4).
وإذا نظرنا في كلام الإمام القرافي يتضح لنا أن المقصود من تقسيم تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم إلى تصرفات بالرسالة وبالقضاء وبالإمامة، هو التفرقة بين الأمور الخاصة بالسلطة التنفيذية، والتي لا يجوز للأفراد العاديين مباشرتها، والتي تختص بالسلطة القضائية، والتي لا يجوز لعامة الأفراد ممارستها إلا بعد حكم قضائي وإذن، وبين الأمور التي تُرِكَ للناس الحرية في التصرف فيها دون حاجة إلى إذن من السلطات.
فالمقصود من كلام القرافي البحث عن ذلك في تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم بيانًا للاختصاصات، وحصرًا لِمَا يدخل تحت اختصاص كل سلطة من سلطات الدولة، ولا يفهم من كلام القرافي بحال أن تصرفات الرسول في قسم الإمامة والقضاء ليست تشريعية، بل إن صفة الرسالة -وهي الوظيفة التشريعية- لا تفارق الرسول حتى وهو حين يتصرف باعتباره رأس دولة، أو حين ترفع إليه الخصومات ويقضي فيها بوصفه قاضيًا، فهو حين يقسم الغنائم، أو حين يقيم الحدود، أو حين يعلن الحروب وكل ذلك من تصرفات الإمامة (رأس الدولة)، فتشريعه في هذه الأمور تشريع لازم لكل إمام بعده، وكذلك أحكامه القضائية(5).
السُّنَّة تشريع كلها
نؤكد هنا أن السُّنَّة كلها تشريع ما كان منها أقوالًا أو أفعالًا، يقول ابن تيمية: إن جميع أقواله صلى الله عليه وسلم يستفاد منها شرع، ويدخل في ذلك ما دل عليه من المنافع في الطب، وقد روي أن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما كان يكتب ما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له بعض الناس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكلم في الغضب فلا تكتب كل ما تسمع، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: «اكتب.. فوالذي نفسي بيده ما خرج من بينهما إلا حق»؛ يعني شفتيه الكريمتين(6).
وبعد استعراض كلام العلماء حول السُّنَّة التشريعية وغير التشريعية يتضح لنا أن ما ذهب إليه العصرانيون بعيداً كل البعد عما ذهب إليه العلماء.
____________________________
(1) صحيح البخاري (7185).
(2) علم أصول الفقه، عبدالوهاب خلاف، (1/ 44)، بتصرف.
(3) إرشاد الفحول، الشوكاني (1/ 33)، بتصرف.
(4) الأحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام، وتصرفات القاضي والإمام، للإمام القرافي، تحقيق عبدالفتاح أبو غدة (1/ 86).
(5) مفهوم تجديد الدين، بسطامي محمد سعيد (1/ 24)، بتصرف.
(6) فتاوى ابن تيمية (18/ 8).