مما جاء في معاني العقل في «لسان العرب»:
– الْعَقْلُ: الْحِجْرُ وَالنُّهَى ضِدُّ الْحُمْقِ.
– الْحِجْرُ: الْعَقْلُ وَاللُّبُّ لِإِمْسَاكِهِ وَمَنْعِهِ وَإِحَاطَتِهِ بِالتَّمْيِيزِ.
– النُّهْيَةُ: الْعَقْلُ، بِالضَّمِّ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا تَنْهَى عَنِ الْقَبِيحِ.. وَفِي الْحَدِيثِ: «لِيَلِيَنِّي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى»، هِيَ الْعُقُولُ وَالْأَلْبَابُ.. وَفُلَانٌ ذُو نُهْيَةٍ أَيْ ذُو عَقْلٍ يَنْتَهِي بِهِ عَنِ الْقَبَائِحِ وَيَدْخُلُ فِي الْمَحَاسِنِ.
– رَجُلٌ عَاقِلٌ: الْجَامِعُ لِأَمْرِهِ وَرَأْيِهِ، مَأْخُوذٌ مِنْ عَقَلْتُ الْبَعِيرَ إِذَا جَمَعْتَ قَوَائِمَهُ، لأنه يَحْبِسُ نَفْسَهُ وَيَرُدُّهَا عَنْ هَوَاهَا، أُخِذَ مِنْ قَوْلِهِمْ قَدِ اعْتُقِلَ لِسَانُهُ إِذَا حُبِسَ وَمُنِعَ الْكَلَامَ.
– سُمِّيَ الْعَقْلُ عَقْلًا لِأَنَّهُ يَعْقِلُ صَاحِبَهُ عَنِ التَّوَرُّطِ فِي الْمَهَالِكِ أَيْ: يَحْبِسُهُ، وَقِيلَ: الْعَقْلُ هُوَ التَّمْيِيزُ الَّذِي بِهِ يَتَمَيَّزُ الْإِنْسَانُ مِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانِ.
– سمّي الفهم عقلًا لأنّ ما فهمته فقد قيّدته في عقلك وضبطته في تصورك ووقفت على حدود تمييزه. وفي الأثر عن سيدنا عمر بن الخطاب: «إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَقِّ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ، فَكَانَ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةُ الرَّجْمِ، فَقَرَأْنَاهَا، وَعَقَلْنَاهَا، وَوَعَيْنَاهَا..» (مُتَّفَق عليه).
نخلُص مما سبق إلى أنّ العقل هو الوسيلة التي يكون بها التفكيرُ والاستدلالُ وتركيبُ التصوُّرات والتصديقات، وعملية العقل هي إدراك وتمييز حقائق الأشياء.
طبيعة الصلة بين العقل والدين
إذا جئنا نلخّص العلاقة بين العقل والدين، لا نقول: إنّ الدين يحترم العقل، لأنّ في هذه العبارة من الدلالات والتباس الفهم ما فيها، وإنما نقول: إنّ الدين يلزمه عقل يدركه، والعقل يلزمه دين يتحاكم إليه؛ إذ كما أنّ الدين يتطلّب عقلًا يعقله أي يستوعبه، فالعقل مضطر لمرجعية تُرشده وتوجّه حركته؛ لأنّ العقل ليس له من الاستقلال الذاتي ما يمكّنه من تأسيس الكليات وخَلق الأحكام والموازين ابتداء، بل خلقه الله ليعمل ضمن أُطُـــر عامـــة ومعطيات كُلّية، يَتَحاكَم إليه في توجيه كيان صاحبه بالتفاعل المستمر مع ما تَمُدّه به الحواس من مدخلات: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (النحل: 78).
والوحي الإلهي بما يوفّره من قطعيّات ويقينيات وثوابت يُؤمِّن الأُطُر التي تساعد العقل على العمل في مختلف شؤون الحياة. فهو يضبط حركة الفكر ويوجهها توجيهًا سديدًا منسجمًا مع مقاصد خلقه. وبهذا تنضبط حركته سَوِيًّا مستقرًا في مساره كالكواكب السيارة: (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (الأنبياء: 33)، وكما أنّه لا بد للنبات من بذرة وجذور يبدأ منها، ثم يتخذ أشكالًا وألوانًا أطوالًا، كذلك لا بدّ للعقل من كليّات ثابتة وأصول أساسية، ينبثق منها نسق مفاهيم وتصورات تصوغ إطار رؤيته للحياة وموازين موازناته.
وكلّ إنسان مضطر للوحي محتاج له؛ لأنّ طريق المعرفة التي يحتاج إليها أيّ إنسان عامة سيبتغي بها اكتشاف نجدين: نَجْد الضرر ونَجْد المنفعة، أي أن يعرف ما ينفعه وما يضره. ومنفعة الإنسان ومضارّه نوعان: نوع دنيوي ونوع أخروي. فالنوع الدنيوي يَتوَصّل له الإنسان بالبديهة والغريزة، وبالتعلم التلقيني والاكتساب الخبراتي: كمعرفة أنّ لحم الخنزير ضارّ صحيًا أو أنّ أكل لحم الضبع غير معتاد عُرفًا. أما النوع الأخروي فمحجوب عن وسائل الدرك نهائيًا، ولا يمكن التوصل إليه إلا عن طريق الشرع المُوحَى من الخالق: كالعلم بأنّ أكل لحم الخنزير حرام وأنّ الخنزير نفسه نجس.
ومن لا يؤمن بالله وشرعه لن يخرج عن طبيعة هذه الخِلقة وحاجاتها، وإنّما كلّ الحاصل أنه سيستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، فيشتغل بابتداع ما نسمع عنه اليوم من نظريات وجوديّة تخمينية، والمهاترة في فلسفات عَدَميّة هشّة، ورؤى مادّية محبطة، وموازين نسبية متبلبلة.
لهذا يخدع نفسه من ينتسب لِملّة الإسلام، ثم حين يناقش شأنًا في الحياة لا يروقه حكم الدين فيه أو تصوّر الشرع له، فيقول: فلنتكلم بعيدًا عن الدين! إنّ الدين ليس قطعة تُباع بالتجزئة يمكن أن تزيحها جانبًا لتستقيم لك معادلة ما، بل هو كُلٌّ متكامل ونَسَق عَقَديّ ونهج حياتيّ. وإذا طَرَحتَ دينك جانبًا فأنت بالضرورة تتبنى دينًا ما وفلسفة عقديّة أخرى لا مِراء. فالشأن هنا ليس هل تتكلم من منطلق الدين أم لا، بل من منطلق أيّ دين تتكلم!
وما أشبه العقليّات التي تتبنى مثل تلك الفلسفة العقيمة بعقليّة بني إسرائيل حين نعى الله تعالى عليهم تلك التجزئة وذلك التبعيض: (ثُمَّ أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَارَىٰ تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ ۚ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ۚ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (البقرة: 85).
ومن أظهر مظاهر هذه الآفة الخطيرة أنّ المسلمين حين يشتغلون بأيّ تخصّص، لا يُقدِّمون التخصص على إسلامهم فحسب، بل يتعاملون حقًّا على أنّ التخصص يسلخهم من الدين! فالدين للجامع والتخصص للجامعة، وما لله لله وما لقيصر لقيصر! سبحان الله! إنّ أيّ علم لا يخلو من فلسفة، وأيّ فلسفة هي نوع دين يَدين به صاحبه، إذ ينطلق منه في تصوّراته ويبني عليه رؤاه ويَصْدُر عنه في أحكامه ويتحرك وِفاقًا له في مساعيه، والإسلام هو فلسفة الوجود أو الرؤية الوجوديّة عند المسلم إن جاز التعبير؛ وبالتالي فإنّ فهمه لأي مكوّن من مكوّنات الوجود لن يخلو من ارتباط وصلة قطعًا به.
مثلًا، اشتغال المسلم بالطب لا يعني أنه لا يَخصّه فقه ما لا يسعه جهله مسلمًا، بل يعني أن يزيد عليه فقه ما يختص به طبيبًا. وكل القضايا الجدليّة التي تُثار في أيّ حقل لا تستعصي على مسلم مستنير ممتلئ بأسس علوم الديانة والعربية؛ سواء بأن يصل فيها لرأي محكم من أهله، أو يُشَكِّل له رأيًا على بصيرة إذا كانت ثمة مساحة متروكة للرأي الشخصيّ.
والخلاصة أنّ الوحي والعقل ليسا نِدّيْن مُتعادِلَيْن، ولا يمكن أن يكونا، والوحي هو الأصل الذي يرجِع إليه العقل، والمرجعيّة التي يتحاكم إليها، والميزان الذي يختبر عنده مُقرَّراته ومفاهيمه وتصوراته، ويصحح به اختلالاته وانحرافاته. فبينهما توافق وانسجام على أساس تفـاعـل العقل مع الوحي بالتلقي منه والانضباط على هُـداه، لا أن يكـون حاكمًـا عليه أو موجّهًـا له. وأما تَوَهّم التعارض بين العقل والوحي، أو العلم والشرع، فله أسباب كثيرة لا يتسع المقام لبسطها، لكن تفصيلها في الكتب الشارحة لمناهج الاستدلال والاعتقاد.
العقل شرط في كمال العلم والعمل، لكنه ليس مُستَقِلًّا بذلك، بل هو غريزة في النفس وقوة فيها بمنزلة قوة البصر التي في العين. فإن اتصل به نور الإيمان والقرآن كان كنور العين إذا اتصل به نور الشمس والنار، وإن انفرد بنفسه لم يبصر الأمور التي يَعجِز وَحدَه عن دَركِها، وإن عُزِل بالكليّة كانت الأقوال والأفعال مع عَدَمِه أمورًا حيوانية، قد يكون فيها محبة ووَجْد وذوق، لكن كما قد يحصل للبهيمة. (ابن تيمية – مجموع الفتاوى).
ختامًا
بوصفك إنسانًا عاقلًا لا يمكن أن ينفصم عقلك عن دينك، وبوصفك مسلمًا يجب عليك ألا تتقبّل لُحْمَة الدين بالحياة، بل أن تعتقد كينونته فيها وقيامها عليه، لذلك لا يمكن بحال ولا يستقيم بوجه عند المسلم في أي مجال أن ينتزع الإسلام من المعادلة أو يبعد الدين من التصور أو ينحّي الشريعة جانبًا، وغير ذلك من العبـــارات الحــداثية المبتذلة؛ لأنه لو انتزع دينه لم يَعُد مسلمًا في التصور الذي يبني عليه، وإذا لم ينطلق من مُنطلق المسلم فلن ينتهي للمُنتهى المسلم، الذي هو غاية كونه مسلمًا!