ليس من الحكمة التقليل من شأن وتأثير دور الأب في المنظومة التربوية للأبناء، والنظر إلى هذا الدور بشكل ثانوي مقارنة بدور الأم، بل في مرحلة ما من حياة الأبناء يكون الأب عاملاً مهماً، وضرورة قيمية ونفسية واجتماعية للطفل.
لكن الأخطر ربما من ذلك ما يجري أحياناً من تغييب دور الأب عن عمد، بدعوى العمل، وانشغاله بالوظيفة، وجمع المال، والسفر، وغير ذلك من ضغوط الحياة.
بل إن الأمر قد يتجاوز ذلك إلى إخفاء تفاصيل مهمة عن الأب، والتكتم على أخطاء فادحة ارتكبها الأبناء، وتجاهل إطْلاعه على متغيرات سلوكية، وتطورات غير أخلاقية طرأت على الأبناء؛ خشية إثارة غضبه، أو تجنباً لرد فعل منه قد لا يحمد عقباه.
ومن الأمهات من يقمن، للأسف، بتسفيه دور الأب، والحط منه، والتقليل من شأن ما يقدمه للأسرة، وربما رفع الصوت عليه، بما يخل بصورته لدى الأبناء، فيشعرون أن أباهم «حافظة نقود» فقط، وأن الآمر الناهي الأم.
أعرف إحداهن دائمة التسفيه والحط من شأن زوجها، حتى غرست اللامبالاة في نفوس أبنائها تجاه أبيهم، فصاروا يعصون أمره، ولا ينصتون لرأيه، يفرحون لغيابه، ولا يطيقون وجوده.
كانت النتائج وخيمة؛ تصرفات غير منضبطة، سلوكيات كارثية، سير في طريق الحرام، إدمان للمخدرات، مستقبل مجهول للأبناء، في ظل تغييب الأب، وعصيان أوامره، والقفز على دوره، وإلغاء تأثيره.
إن المرأة تخطئ خطأ جسيماً حينما تظن أن بمقدورها قيادة السفينة دون الرجل، وتربية الأبناء دون رقيب، ورعاية البنات دون أب حنون، وحازم في الوقت ذاته.
إن وجود الأب في حياة الأبناء أمر لا غنى عنه، وعامل رئيس في عملية الإرشاد والتقويم، إذا انحرف أحد منهم، وهو بوصلة مهمة نحو المستقبل، يحث على الفضيلة، وينهى عن الرذيلة، وهو قوة ردع لمن تسول له نفسه ارتكاب الخطأ تلو الخطأ، دون وازع أو خوف من أحد.
العديد من الدراسات الحديثة تؤكد أن الأطفال الذين ينشؤون في غياب الأب، لديهم ميول أكثر عدوانية، وسلوكيات غير سوية، كذلك الفتيات اللاتي فقدن الأب، يعانين من فراغ عاطفي واضطراب نفسي ينعكس عليهن مستقبلاً.
بينما أثبتت الدراسات أن البنات اللاتي نشأن بين أُم وأب كن أقل عرضة للأمراض النفسية، وأن الأولاد الذين حظوا بصلة وطيدة مع آبائهم كانوا أبعد عن الإدمان والعنف، وكانوا أكثر استقراراً واتزاناً.
ويؤكد خبراء التربية أن دور الأب في عملية تربية الأبناء يعزز الثقة لدى الأطفال، ويحقق نوعاً من التوازن النفسي، في ظل دور للأم لا يطغى على دور الرجل، ولا يتجاهله أو يغيبه، بل يتكامل الدوران في تخريج جيل ناضج سوي مستقر نفسياً واجتماعياً.
بل إن الخبراء ذهبوا إلى خطأ من يعتقد أن تأثير الأم على المهارات اللغوية للأطفال يكون أكثر وأعمق من الأب، بالنظر إلى تواجدها معهم لفترات طويلة، مشيرين إلى أن الطفل يعتاد لغة وصوت الأم، وبالتالي لا ينجذب لكلماتها بصورة كافية، بينما ينجذب إلى كلمات الأب، وينتبه إلى مفرداته بشكل أكبر.
ومن المصارحة، القول: إن الأب كذلك يتحمل قدراً كبيراً من المسؤولية، حال تنازل عن دوره التربوي، وفوّض غيره للقيام به، وقصر دوره على توفير المال والطعام والشراب والملبس وغيره من ضرورات الحياة، وترك الحبل على الغارب للأم تربي كيفما تشاء.
إن العملية التربوية جهد مشترك يحتاج إلى تنسيق وتعاون، وتضافر جهور الأب والأم، في تخريج جيل ناضح واع، يفهم أمور دينه، ويحب وطنه، ويعتز بهويته، ويعمل من أجل رفعة المجتمع الذي يعيش فيه.
ليس من حق الأم أن تغيب الأب، أو العكس؛ لأن الناتج النهائي سيكون طفلاً مشوهاً معقداً مريضاً نفسياً عدوانياً مدمناً، وجيلاً ضائعاً بلا تربية أو أخلاق أو هوية.
ودور الأب الذي ننشده في هذا السياق ليس تواجداً فقط في المكان (البيت)، بل علاقة صحية تفاعلية مع الأبناء، وقرباً من أفكارهم واهتماماتهم، وتواصلاً جيداً، أشبه بعملية بناء تحقق التوازن النفسي للأبناء، وتكسبهم العادات والسلوكيات السليمة والقيم النبيلة.
عملية بناء تجمع بين الرفق والشدة، بين اللين والحزم، بين الحنان والحسم، ما يحقق ما نصبو إليه من تنشئة صحيحة، وأبناء على خلق، وأسرة سوية تسهم في بناء المجتمع.
نحن في حاجة إلى أب فاعل، وأم واعية، أب قدوة، وأُم مربية، برفقتهما الحنان والحب، يقودهما التفاهم في طريقة وأسلوب تربية الأطفال منذ البداية، وبوصلتهما شرع الله، وسُنة نبيه، وأمام عينيهما المسؤولية الملقاة على كاهليهما؛ «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته».