تشير معدلات الطلاق المذهلة إلى وجود مشكلات عميقة في بنية الأسرة، تلك المشكلات التي جففت منابع المودة والرحمة وتحولت إلى مشاعر الكراهية والنفور والترصد؛ فكانت النتيجة الحتمية انهيار البناء الأسري بالطلاق أو الوقوف على عتبات المحاكم.
يؤدي العنف الأسري دوراً أساسياً لهذه المشكلات المعقدة التي تؤدي لهذه الانهيارات، وإذا قمنا بتحليل هذا النمط من المشكلات القائمة على العنف، سنجد أن العنف الجسدي لا يؤدي الدور الأكبر، مع الإقرار بالطبع بخطورته.
أما الدور الأكثر ضخامة فيمارسه العنف اللفظي في كثير من البيوت، وهو عنف نمطي متكرر ذو تأثير تراكمي؛ ما يجعل منه هادماً للبناء الأسري بمرور الوقت عن طريق ارتفاع نقاط الكراهية التي هي المنتج النهائي لهذا العنف.
في بعض صوره هو أشد وطأة من التعنيف الجسدي، وفي الحديث: «إذا زنت الأمة فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب» (رواه مسلم)، ومعنى «لا يثرب» لا يعنفها لفظياً ولو بوصف ما اقترفت من إثم، فهو أشد وطأة من الجلد.
رسائل سلبية
العنف اللفظي الأسري جزء من العنف النفسي الذي قد يمارسه أحد الزوجين داخل الأسرة.
ويبدو أن المرأة تشارك الرجل هذا النوع من العنف، فهو بخلاف العنف الجسدي ليس بحاجة لقوة بدنية كبيرة، وهو وفي بعض صوره يعتمد على التلاعب وإرسال الرسائل السلبية المستترة التي تجرح الآخر دون أن يمتلك دليلاً ملموساً عليها.
والعنف اللفظي يعمل على تحطيم الطرف الآخر ويدمر نفسيته ويشعره بالعجز والذنب، يكفي أن يسخر الرجل من شكل زوجته أو جسدها أو يقارنها بأخريات، أو يخبرها أنها ليست أنثى، أو أنها لا تشبه باقي الإناث حتى يوجه لها أكبر طعنة تمس كرامتها الأنثوية، وقد يصل بها الأمر للشك المرضي في ذاتها، وقد يتملكها الشعور بالذنب وقد يصل الأمر معها حد المرض النفسي.
والأمر نفسه قد تمارسه الزوجة، فتراها تنتقص من زوجها وتسخر منه ولا تتذكر إلا أخطاءه، وتستخدم معه خطاباً لفظياً عنيفاً غير مباشر عن طريق تجريده من مميزاته؛ «لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ثم رأت منك شيئاً قالت: ما رأيت منك خيراً قط» (رواه البخاري).
إن التقليل من قيمة وتقدير الرجل ومقارنته بآخرين أو التلفظ بألفاظ الرثاء للذات للارتباط بهذا الرجل من أشد وأعنف صور الإساءة اللفظية التي قد تقوم بها المرأة خاصة، وبعض النساء يجدن استغلال نقاط ضعف الزوج (سواء كانت مادية أو غير ذلك) حتى تصيبه في مقتل نفسي.
هشاشة إيمانية
وفي رأيي أن الهشاشة الدينية وضعف التربية الإيمانية السبب الحقيقي للرغبة في الإيذاء والإساءة، بما تمثله من عنف نفسي لا يلبث أن يتحول لإساءة وعنف لفظي، فأبجديات التدين تُدين الإساءة اللفظية فـ«ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء» (رواه الترمذي والحاكم، وصححه الألباني).
فإذا أضفنا لذلك ما تقدمه السينما والدراما من حوارات هابطة وألفاظ بذيئة ومشاعر غير صحية والاقتداء بها في البيئة الاجتماعية المحيطة بالأسرة؛ فإن ذلك كله يؤدي إلى تراكم مشاعر التوتر والقلق وينفجر على صورة إساءة وعنف لفظي.
والعنف اللفظي قد يبدو في صورة إساءة ظاهرة كالسب والقذف سواء للزوج أو عائلته، وقد يبدو بشكل خفي كالسخرية والتنمر، قد يكون تحقيراً أو لوماً قاسياً ونقداً سلبياً لاذعاً.
وقد يشتمل العنف اللفظي على سلوكيات سلبية كالإعراض والتجاهل ورفض الاستماع وإصدار بعض الأصوات التي تحمل معنى الاستهانة، أو بعض تعبيرات الوجه التي تدل على الامتعاض.
وقد يكون الهدف من هذه الإساءات إشعار الطرف الآخر بالذنب أو حتى تحطيمه وإذلاله، وقد يحدث ذلك كله بشكل واع أو غير واع، وقد يحدث ذلك بين الزوجين فقط أو في جمع من الآخرين، وهو أشد وطأة ولا شك.
دائرة العنف
هذا العنف اللفظي بالغ القسوة إذا لم يتم تداركه، فإن دائرته ستتسع وتبتلع كافة أفراد الأسرة، فإذا كان أحد الزوجين يمارس العنف اللفظي على الآخر فهو لن يستطيع وقفه عن الأبناء؛ لأن العنف أصبح سمة ثابتة من سمات الشخصية، والحقيقة أن مشاهدة الأطفال واستماعهم لهذا العنف هو عنف في حد ذاته.
أما الضحية فهي غالباً ما ستقوم بممارسة العنف هي الأخرى كرد فعل تلقائي على ما يقع عليها من ضغط وإهانة، أو قد تقوم بتصديره للأبناء باعتبارهم الحلقة الأضعف، أو «كيس الملاكمة» الذي يتم تفريغ مشاعر التوتر فيه.
والنتيجة أبناء يعانون من القهر والتوتر واضطراب الشخصية، أبناء يعانون من القلق وقد افتقدوا مشاعر الثقة والأمان، أبناء مؤهلون لإعادة إنتاج صناعة التعنيف في المستقبل.
قاوم بالرفق
أهم ما يمكن عمله لوقف دائرة العنف عدم التماهي معها، وعدم رد العنف بالعنف والإساءة بالإساءة والوجع بمثله، فعلى الطرف الذي تعرض للعنف اللفظي أن يتمثل قوله تعالى: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران: 134).
ولا يعني كظم الغيظ الاستسلام للعنف اللفظي بالتأكيد، وإنما الهدوء والصبر في مواجهته، مع إظهار الرفض لهذا السلوك، والحزم في وضع الحدود مع المسيء لا يعني العنف التبادلي، وإنما وضع الأمور في نصابها الصحيح حتى لا يتمادى الطرف المسيء في إساءته.
يلي ذلك استخدام قوة الرفق في مواجهة نزق العنف، ولا يمكن أن يتم ذلك والمشاعر ملتهبة متقرحة، بل لا بد من تحريرها باستخدام مهارات العفو، ولعل في تفهم دوافع السلوك العنيف معيناً على ذلك.
أما التطبيق الحقيقي لقوة الرفق فيكون بالإحسان للمسيء، ومحاولة منحه ما يحتاج إليه حتى لا يتبقى لديه دافع للإساءة، وهي رسالة ضمنية لبقايا الضمير داخله حين لا يجد في العنف المتبادل وقوداً لمعاركه الوهمية.
إذن، يمكننا مواجهة العنف اللفظي بالتوازن ما بين الحزم في رفض هذا السلوك، ورفض الإهانة، وعدم السماح للكلمات المسيئة السامة أن تؤثر على ثقتنا في أنفسنا، والرفق والدفع بالتي هي أحسن حتى يتراجع المسيء عن إساءته.