حين كانت أي دولة عربية أو إسلامية أو أفريقية تسعى للتطبيع مع الاحتلال الصهيوني، كانت ترسل رسائل ومبررات بأنها فعلت ذلك لسببين؛ الأول: أن «تل أبيب» دولة متقدمة ومتطورة ولديها قدرات عسكرية ضخمة، ولديها أقوى جيش في المنطقة بأحدث سلاح، ويمكنها بالتالي أن تحمي وتدافع عن أي حاكم أو نظام حكم، سواء بمده بالسلاح أو توفير مرتزقة صهاينة لحمايته.
أما الثاني: أنها كانت دوماً تقدم نفسها باعتبارها الأخت الشقيقة لأمريكا أو ولاية أمريكية أو أنها بوابة العبور لأي دولة من دول العالم إلى البيت الأبيض.
وفق هذا المنطق والمنطلق الزائف، قامت العديد من الأنظمة العربية أو الأفريقية والآسيوية بالتطبيع مع الاحتلال، وأغدق عليها الاحتلال بالفعل مشاريع تجارية وزراعية وصناعية.
كما قدمت لها أسلحة وأجهزة تكنولوجية بينها معدات للتجسس على شعوبها كي يسهل قمعها، حتى أصبحت برامج تجسس وتنصت شهيرة مثل «بريديتور» و«بيجاسوس» وغيرها مرتبطة بدولة الاحتلال، وحكام، خصوصاً في أفريقيا وآسيا، يعتمدون على شركات المرتزقة الصهيونية في حماية كراسي الحكم.
من هنا يمكن فهم أهمية وقوة عملية «طوفان الأقصى» التي نفذتها حركة المقاومة الإسلامية (حماس) يوم 7 أكتوبر 2023م، ومرغت بها أنف الاحتلال وأظهرته كجمهورية موز غير قادرة حتى على حماية نفسها وجنودها ومستوطنيها الذين أسرتهم «حماس» ونقلتهم إلى غزة.
ألغت نظرية اعتبار «إسرائيل» أقوى قوة عسكرية بالمنطقة وبوابة البيت الأبيض للعرب
وكيف أن «طوفان الأقصى» ستنسف خطط التطبيع العربية مع الاحتلال وتلغي نظرية اعتبار «إسرائيل» مدخلاً للبيت الأبيض باعتبارها أقوى قوة عسكرية في المنطقة.
الكيان الصهيوني الذي يقدم إغراءات لدول التطبيع حول أجهزة تنصت ومراقبة وقدرات تكنولوجية وعسكرية هائلة، ويضع كماً هائلاً من وسائل المراقبة الجوية والأرضية وعبر المناطيد والأقمار الصناعية، لم يستطع أن يكتشف هجوم «حماس» الذي استخدمت وسائل قتالية بسيطة وجديدة مثل المركبات الشراعية والخداع الإستراتيجي، وفوجئت بأبطال المقاومة يهبطون عليهم بالموت من السماء والبر والبحر.
وقال الرئيس السابق لجهاز المخابرات الصهيوني (الموساد) «إفرايم هاليفي» لشبكة «CNN»: «لم نتلق أي تحذير من أي نوع، وكانت مفاجأة تامة أن الحرب اندلعت»؛ ما يظهر هشاشة هذا الكيان المصطنع، وكيف أنه آلة دعاية وضجيج بلا طحن.
صدمة قتل وأسر كبار القادة في جيش الاحتلال الذين كانوا يتفاخرون وهم يشربون القهوة على حدود غزة بردعهم للمقاومة، ألجمت قيادة الجيش والحكومة الصهيونية؛ لأن هذه أول مرة منذ 50 عاماً يجري اختراق عمق الكيان والسيطرة على قرابة 22 مستوطنة هرب أهلها والجنود الذين يحمونها أو قتلوا.
نسخة من أكتوبر 1973
كل ما قيل عن حرب 6 أكتوبر المصرية عام 1973م قاله الصهاينة مجدداً في حرب 7 أكتوبر 2023م! مثلما قال الرئيس السادات: «أفقدنا العدو توازنه في 6 ساعات»، قال إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لـ«حماس» نفس العبارة، وزاد عليها جنرالات صهاينة بقولهم: إن «حماس» أفقدتنا توازننا في 6 دقائق لا ساعات!
أيضاً مثلما هونت «إسرائيل» من إمكانية قيام مصر عام 1973م بحرب، كما تم الكشف عن ذلك في الوثائق التي أصدرتها في ذكري مرور 50 عاماً على الحرب، وتجاهلت الإشارات الاستخبارية حول ذلك، كررت نفس الخطأ مع «حماس»، رغم أنه لا أحد كان يحلم بما فعلته «حماس»؛ حيث ذكرت صحيفة «معاريف» أن أجهزة الأمن الصهيونية رصدت إشارات بأن حركة «حماس» تخطط لعملية، وأن هذه الإشارات نوقشت في الجيش لكنها لم تتوقع الهجوم و«لم تر الصورة الكبرى»!
وكتب المحلل العسكري «يوسي يهوشوع» في صحيفة «يديعوت أحرونوت» تحت عنوان «باغتونا وسروالنا في الأسفل»!: إن الجيش «الإسرائيلي» شهد في يوم الغفران 2023م ثاني هزيمة مثل حرب أكتوبر (يوم الغفران 1973م)، مضيفاً: بعد خمسين عاماً ويوماً من فشل تلك الحرب مع مصر، ورغم عقود من الحديث عن الدروس المستفادة وفشل المفهوم، وجدت دولة «إسرائيل»، القوة الإقليمية، نفسها في مواجهة وسروالها في الأسفل! ما سيؤثر على صورتها في العالم.
وتساءلت «أحرونوت» في عناوينها: أين كانت الدولة؟ مؤكدة أنه لم يمر على «إسرائيل» حدث كهذا منذ قيامها، المقاتلون الفلسطينيون يتجولون من بيت إلى آخر دون أي إزعاج، والسكان يستغيثون والجيش غير موجود.
«حماس» قلبت الطاولة على المطبِّعين وبعثت رسالة للجميع بإنهاء قيادة «إسرائيل» للمنطقة
وذكرت صحيفة «هاآرتس» العبرية 6 أخطاء وإغفالات وقع فيها الجيش والأجهزة الأمنية الصهيونية في مواجهة خطط «حماس»، وقالت: لم يكن لدى «إسرائيل» أي تحذير استخباراتي مسبق عن الغزو، ولم تتوفر أي معلومات مسبقة، ولم تتصور أن «حماس» تريد أي مواجهة، فضلاً عن غزوها الداخل «الإسرائيلي» نفسه! وحتى بعد أن بدأ التحرك للرد، لم يكن هناك ما يكفي من القوات المتاحة في المنطقة للوصول إلى المستوطنات المعرضة للهجوم، وحتى بعد تدفق القوات إلى المنطقة، انتظر العديد من الجنود الصهاينة، بمن في ذلك قوات النخبة، لساعات طويلة في نقاط التجمع بدلاً من إرسالهم إلى المستوطنات.
وأكدت أن التشكيل الدفاعي للقيادة الجنوبية وفرقة غزة انهار بشكل كامل صباح يوم الهجوم، ولم يكن لدى الجيش عدد كاف من الجنود في المنطقة لنشرهم في المستوطنات خلال وقت قصير، وقتل كبار القادة والجنود والشرطة وهرب من هرب وتم أسر من وصلت له يد المقاومين.
لا تطبيع مع الفشلة!
أكثر ما يقلق قادة الاحتلال وصحف «تل أبيب» هو تأثير إطاحة «حماس» بأسطورة الأمن «الإسرائيلية»، على خلفية الإخفاق الاستخباراتي والعسكري الكبير.
إذ إن الاحتلال الذي قدم نفسه لدول التطبيع العربية وللعالم كقوة تكنولوجية وتقنية كبيرة وباع أجهزة تنصت لدول عربية كي تتجسس على مواطنيها، وافتخر أنه يحمي حدوده ومستوطناته بتقنيات وكاميرات وأقمار صناعية؛ فشل في صد هجوم المقاومة، حتى إن الصحف العبرية سخرت من رد «إسرائيل» الذي أسمته «السيوف الحديدية» وقالت: إنه «السراويل الحديدية» بعدما ظهر جنود الاحتلال أسرى في أيدي «حماس» وهم بسراويلهم السفلية!
وقد اعترف وزير الخارجية الأمريكي «أنتوني بلينكن» وصحف غربية بأن عملية «طوفان الأقصى» ستؤدي لعرقلة التطبيع الصهيوني سواء مع دول عربية جديدة كان يجري التفاوض معها أو دول إسلامية آسيوية أو أفريقية، فضلاً عن تجميد التطبيع مع الدول المطبعة حالياً.
بل إن وزير الخارجية الأمريكي والصحف الغربية ادعت أن هدف عملية «حماس» هو تعطيل هذا التطبيع مع دولة عربية كبرى، وقال لشبكة «سي إن إن»: لن يكون مفاجئاً أن يكون جزء من الدافع هو تعطيل الجهود المبذولة للجمع بين دول عربية و«إسرائيل»، إلى جانب الدول الأخرى التي قد تكون مهتمة بتطبيع العلاقات.
وأوردت وكالة «رويترز» أن «حماس» أرادت من خلال ضربها «إسرائيل» قلب الطاولة على المطبعين العرب، وإعادة رسم واقع جديد للمنطقة يختلف عما كانت تخططه «إسرائيل» وأمريكا بزرع «إسرائيل» داخل المنطقة العربية عبر التطبيع وجعلها تقود العالم العربي أيضاً، ونقلت عن مسؤولين فلسطينيين ومصدر إقليمي أن المسلحين الذين اقتحموا بلدات «إسرائيلية» وقتلوا 700 واحتجزوا رهائن يوجهون أيضاً رسالة مفادها أنه لا يمكن تجاهل الفلسطينيين إذا أرادت «إسرائيل» الأمن، وأن أي اتفاق تطبيع عربي مرفوض.