ما هناك بد من أن نذكر هذا التاريخ؛ لأننا -نحن العرب- كثيرو النسيان، ويجب؛ لكي نحسن العمل في حاضرنا؛ ولكي نحسن العمل لمستقبلنا، أن نعرف ماضينا جيداً. وماضي الأمة العربية الغائر في التاريخ جدير بالدراسة والاعتبار؛ لأن هذه الأمة كشفت تجارب الماضي والحاضر –على سواء– على أنها ما تحيا إلا بدين.
إذا كان السمك يحتاج إلى الماء ليحيا، وإذا كان البشر يحتاجون إلى الهواء ليحيوا، فإن الجنس العربي يوم يفقد دينه يفقد أسباب حياته، ويستحيل أن يبقى له على ظهر الأرض وسم ولا رسم، ولابد أن نعرف طبيعة جنسنا، وعندما نذكر هذه الطبيعة فيجب أن ننبش في التاريخ الماضي.
إن بني إسرائيل جاؤوا ليقولوا: نحن أصحاب فلسطين. لقد كانوا أصحاب فلسطين يوماً، ولكن قبل أن يكونوا أصحابها كانت هذه الأرض ملكاً للعرب، وكان العرب ينتشرون في جنوب الجزيرة، ووسطها، وشمالها، وفوق الشمال، ولكنهم -كما قلت- اختُبروا اختباراً مراً كي يكون لهم دين يحيون به، فلما تمردوا على هذا الدين عصف بهم، وحُصدت خضراؤهم، وحلَّت بهم من عقوبات السماء ما سوَّد وجوههم، وأنزلهم حضيضاً لا يخرجون فوقه أبداً.
ما يسمى بـ “أورشليم” هو في الحقيقة “أورسليم”، اللغة العبرية تنطق السين شيناً، يقولون “موشى” وهو “موسى”، “أورسليم” بلد سليم، أو محلة سليم، كان هناك مكان للعرب! إن للعرب وجودا في فلسطين، كيف؟ كانوا هم الجبابرة الذين يسكنون هذه الأرض، وهؤلاء الجبابرة امتداد لإخوانهم في جنوبي جزيرة العرب، في جنوب الجزيرة كانت توجد ديار الأحقاف، وفيها عاد، (الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ) [الفجر:8]. وفيها سبأ وجنانها النضرة التي أغرقت لما كفرت.
وندفع الجنوب إلى الشمال فنجد “ثمود” و”مدائن صالح”، والخراب الذي حل بهذه القبائل لما كفرت بنبي الله صالح بعد أن كفر إخوانهم في الجنوب بنبي الله هود، ثم نصعد فنجد مدين التي كفرت بشعيب، ونصعد فنجد قوى المؤتفكة –في الأردن– التي كفرت بنبي الله لوط، ونصعد فنجد فلسطين والجبابرة الذين سكنوها من الكنعانيين العرب، ونصعد فنجد الفينيقيين –وهم جيل سامي– امتداد للجنس العربي.
هؤلاء العرب الأقدمون دمر الله عليهم، وبعد أن ذكر الأنبياء العرب الذين حاولوا أن يرتفعوا بمستوى الجزيرة، وأن يصلوها بالسماء، وأن يجعلوا حضارتها تشرب الروحانية بدل القسوة، والتواضع بدل الكبر، والعدالة بدل المظالم، والإنصاف الاقتصادي بدل الغش والاحتكار؛ لما أبى العرب هذا دُمر كل ما بنوا. قال -جل شأنه- في سورة هود: (ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ) [هود:100].
كان العرب الكنعانيون في فلسطين، وكانوا جبابرة، وكما قلت الجنس العربي جنس في غرائزه قوة، وفي طباعه صلابه، وفي مواهبه امتداد، إذا سخر للخير ارتفع بمواكب الحق إلى الأوج، وإذا سخر للشر ركبته شهواته، ومضي به إبليس يمنة ويسرة، فأسف وفعل المناكر!.
هذا هو الجنس العربي، وكما قال ابن خلدون –وهو من أدق الرجال وصفاً للجنس العربي– إنهم جنس لا يصح إلا بنبوة، ولا يقوم إلا بدين، ولا ترقى مواهبه إلا بشرائع السماء، فإذا ترك العرب النبوة والدين وشرائع السماء تحولوا إلى قطعان تعبد الشهوة، وتطلب المال؛ لتبعثره ذات اليمين وذات الشمال؛ تنفيساً عن شهواتها!.
العرب من غير دين شعوب يأكل بعضها بعضاً، ومن أجل ناقة ظلت حرب البسوس أربعين سنة، ومن أجل خيل مضت في السباق –داحس والغبراء– انطلقت الحروب عشرات السنين. إنه جنس يدمر يومه وغده ما لم يربطه دين، وما لم تعصمه آيات الوحي، وما لم تلجم غرائزه بهدايات السماء !!
هؤلاء هم العرب. أين عاد؟ أين ثمود؟ أين مدين؟ أين قرى المؤتفكة؟ أين غيرهم؟ دمر عليهم.
ثم جاءت النبوة الخاتمة لكي تجعل من العرب جنساً آخر، ومضى تاريخهم، لكن قبل أن نتحدث عن تاريخ العرب بعد أن شرفهم الله بالإسلام نريد أن نتحدث عن تاريخ غيرهم، عن تاريخ اليهود، فإن هذا الشعب –وهو ابن عم العرب– شعب غليظ الرقبة، بادي القسوة، شديد العناد؛ وعندما نزلت بهم لعنات الفراعنة، وصرخوا بموسى -عليه السلام- يقولون له: (… أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا. قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) [الأعراف:129].
سيقع يوم تنكسر عنكم القيود، ويوم تملكون حريتكم. كلمة ناضحة بأن الرجل متشائم منهم، وبأنه يدري أنهم يوم يملكون القوة فسيكونون ألعن من الفراعنة! وملَك بنوا إسرائيل القوة بعد لأي، حاول موسى بمنطق الإيمان أن يزحف بهم على فلسطين يوم كان العرب الجبابرة يسكنونها فغلبهم الجبن، و(قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ! وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ) [المائدة:22]. إن يخرجوا منها تدخلها الكلاب! أي كرامة لكم يوم تدخلون فلسطين وليس فيها أحد من العرب؟ ولذلك فإن موسى (قَال رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ * قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) [المائدة:25، 26].
تاهوا في سيناء أربعين عاماً حتى هلكت الأجيال الجبانة الخوَّارة، ونبت جيل آخر قاده نبي الله “يوشع”، ودخل فلسطين، وقهر الجبابرة، وأقاموا دولة لهم؛ وما مضت إلا فترة محدودة حتى أخذت قشرة التدين تتقلص، وحتى أخذت الطبيعة الرديئة تبرز، وغرائز السوء تطفح، وإذا باليهود يفسدون في الأرض، ويسفكون الدم، ويملؤون أقطار دولتهم مظالم. فماذا يفعل الله بهم؟ سلط عليهم “بختنصر” فهزم دولتهم، وهدم هيكلهم، وساق عشرات الألوف من الشباب اليهودي أسرى أمامه إلى “بابل”، وفي السجن البابلي أذيقوا أشد العذاب.
ثم عفا الله عنهم، ويسر لهم حاكماً ردهم مرة أخرى إلى بلادهم، فهل عادوا ليرعووا، ويعدلوا، ويصلحوا؟ لا! سرعان ما عادت إليهم طباع السوء، فما هي إلا جولة وأخرى حتى انقض عليهم الرومان، وأمر القائد الروماني “تيتوس” بتدمير الهيكل، فدمر الهيكل مرة أخرى، وبدا أن الشعب الإسرائيلي بعد عدة مئات من السنين لا يصلح للحكم، وأن أداة الحكم في يده تجعله مفتاح شر، وتجعل أصابعه الطائشة تطلق قذائف من الدمار والفساد على أهل الأرض فما ينجو أحد من بلائهم.
حاولوا قتل عيسى -عليه السلام- وفشلوا، وحاولوا قتل محمد -صلى الله عليه وسلم- وفشلوا، وإن كانوا قد نجحوا في قتل أنبياء آخرين: (لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً، كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ) [المائدة:70].
إلَّا أن الله عز وجل كان قد هيأ للإنسانية مستقبلاً آخر، ونقلت قيادة الوحي من بني إسرائيل إلى بني إسماعيل، ونقلت لغة الوحي من العبرية إلى العربية، ونقلت عاصمة الوحي من بيت المقدس إلى مكة والمدينة، وتولى تربية العالم جنس آخر رباهم محمد -صلى الله عليه وسلم- تربية جديدة، وسكب النبي الخالد -صلى الله عليه وسلم- من سموه، ومن سناء روحه، وارتقاء ضميره ورسوخ تقواه؛ سكب في أولئك العرب ما حولهم خلقاً آخر؛ فإذا هم يخرجون على الدنيا وكأنهم ملائكة! تحول الجبروت الجاهلي إلى سناء واهتداء وافتداء في سبيل الله.