كان لحادث التقدم الغربي الذي تمثل في الثورة الصناعية ثم الثورة العلمية والتكنولوجية، بالإضافة إلى ما ركن إليه العقل المسلم من الجمود والتقليد؛ دور أساسي في سؤال «الإصلاح» في الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر، الذي حاول فيه المفكرون البحث عن الإجابة عن تساؤل: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟ وذلك بعد الانبهار الكبير بالغرب ونهضته العلمية والصناعية، وما ترتب على ذلك الانبهار-عند البعض- بمحاولة إسقاط مقدمات وأسباب نهضة المجتمع الغربي بظروفه وبيئته وتاريخية حضارته على المجتمع الإسلامي، واستيراد أدواته الفكرية والمعرفية دون النظر إلى البيئة الحضارية الإسلامية وبنيتها الثقافية والمجتمعية والعقدية ورؤيتها التوحيدية؛ فكان الناتج الطبيعي عدم تفاعل القادم من الغرب مع الحاضر الإسلامي.
خارطة عامة لأفكار الإصلاح
في ضوء ذلك، ظهرت الأفكار الإصلاحية الإسلامية -في صورة رواد أو مشاريع جماعية- من أجل الإجابة عن هذا التساؤل الحضاري سؤال التقدم الغربي والتراجع الإسلامي، وفي ذلك يمكن أن نصنف مراحل الانشغال والعطاء الفكري في هذا الميدان إلى مرحلتين رئيستين:
الأولى: يمكن أن نطلق عليها مرحلة اليقظة /البعث/ النضال: وهي المرحلة التي فوجئ فيها العالم الإسلامي بسقوط الخلافة وسقوط النظم الإسلامية وحلول النظم العلمانية بديلاً عنها في ظل حالة من جمود العقل المسلم ورثها في القرون الأخيرة نتيجة لعوامل سياسية وتاريخية وسننية، ومن ثم كان احتياج الفكر الإسلامي إلى أمرين؛ الأول: البحث عن أسباب السقوط الداخلية (المدخل السنني لفهم الأزمة الحضارية)، والأمر الثاني: بعث فكرة الأمة مرة أخرى في نفوس المسلمين في مواجهة الدولة القُطرية التي مزقت فكرة الأمة على المستوى الواقعي والعملي.
ومن رواد هذه المرحلة جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ورشيد رضا، وحسن البنا، وهذا له شرحه فيما أنتجوه من أفكار تلبي هذين الاحتياجين السابقين (الفهم السنني للأزمة الحضارية، وبعث فكرة الأمة في نفوس المسلمين) التي كادت أن تتفكك على مستوى التصور الذهني للمسلم أيضاً، ومن أهم الأفكار الكلية التي طرحها هؤلاء الرواد في هذه المرحلة التي شكلت مساراً فكرياً أساسياً لحركة الإصلاح، فيما بعد، ما يلي:
– نقض العقيدة الجبرية التي استسلم لها العقل المسلم ردحاً من الزمن كمسوغ لحالة التدهور الحضاري التي أصابته.
– بعث الفكرة الإيمانية في نفوس المسلمين أو العقيدة الدافعة، وطرح برنامج الإيمان المجسد.
– الوعي بأخطار الفكرة الغربية في كلياتها الأساسية وإشاعة التوعية بذلك.
– التفكير في موضوع الأمة كموضوع وجودي وليس خياراً أو ترفاً نظرياً.
المرحلة الثانية التي يمكن أن نطلق عليها مرحلة الرؤية، أو بلورة المشروع الحضاري في كلياته، أو التأسيس لبناء مشروع حضاري لأمة الشهود؛ واتسمت هذه المرحلة بطرح الرؤى الكلية للمشروع الحضاري الإسلامي وبيان ملامحه، وهذا تطلب من روادها أمرين أساسيين؛ الأول: بيان موضوع الخلل الحقيقي في الأمة، والثاني: المقارنة بين مبادئ وكليات ومنطلقات الفكرة الإسلامية ونظيراتها الغربية التي تفوقت في الواقع العملي لأنها امتلكت الفاعلية الحضارية؛ ومن ثم فقد اعتمدت هذه المرحلة منهجين متكاملين هما التفكيك والتركيب؛ التفكيك لأسباب الأزمة الحضارية بصورة أكثر تحديداً وإعادة تركيبها في ضوء النظرة القرآنية الشاملة، وأيضاً تفكيك النموذج المادي الغربي المهيمن على الحضارة المعاصرة وبيان عجزه الذاتي والخارجي في التعامل مع الظاهرة الإنسانية من منطلق الفطرة والمساواة والعمران الإيجابي، وضرورة البحث عن نموذج بديل يتوافق مع تلك الفطرة ويعتقد في المساواة الإنسانية، ويرسي قواعد العمران الإنساني الإيجابي.
ويمكن الإشارة إلى 4 رواد أساسيين في هذه المرحلة، هم: مالك بن نبي، محمد باقر الصدر، على شريعتي، إسماعيل الفاروقي، وغيرهم في بقاع العالم الإسلامي.
ماذا بعد؟
إذن، يمكن القول: إنه لا يوجد لدينا خلل في التنظير لمشكلات الأمة الاجتماعية والحضارية –حيث تركت جهود الإصلاح المعرفي تراكمات معرفية ضخمة لمواجهة هذه المشكلات- لكن الإشكالية الحقيقية تبدو التطبيق، أو التشغيل لهذه الأفكار والمشاريع التي كتبها الرواد خلال أكثر من قرنين من الزمان، بينما لم تتابع من قبل الأمة في باب التشغيل، فما يمكن أن نطلق عليه الجيل الثالث لرواد الإصلاح لم يظهر بعد، ونقصد بالجيل الثالث لا من حيث الزمن ولكن من حيث النوع، فكان من المنتظر من أجيال الباحثين في الأمة والمفكرين أن يقوموا مثنى وفرادى بتدشين خط عملي تطبيقي لهذه الأفكار من خلال دعم أفكار الاستقراء والتجربة والتشغيل لهذه الأفكار في واقع الأمة، وتهيئة البيئة المحيطة والسياق العام لقبول تحدي التجربة الإسلامية التي خطتها مشاريع الإصلاح في القرنين الماضيين، وليس الإغراق في اجترار هذه الأفكار.
مقترحات التشغيل
لا يمكن أن تنتظر الأمة ظهور جيل الإصلاح الثالث أكثر من ذلك، بل عليها أن تقوم بتهيئة البيئة والسياق لسد الفجوة بين التنظير الضخم الذي حدث، وتقزيم حركة التطبيق التي تتوارى في الخفاء وتخجل من الظهور، وفي ذلك يمكن رسم خطة لبناء اتجاه عمل في هذا الطريق الضروري والواجب.
إن التحدي الرئيس لجيل الإصلاح الحالي يكمن في الإجابة عن تساؤل مفاده: كيف يمكن تحويل أفكار الإصلاح إلى تنزيلات في واقع الأمة، والواقع هنا نقصد به الجانب المعرفي في بحوثها وأفكارها ومناهجها، والجانب الاجتماعي في نظمها ومؤسساتها ونظامها القيمي، والجانب الحضاري في تصورات أفرادها وطموحهم الحضاري وسلوكهم المشهود.
من أجل أن يتحقق هذا التجسير بين النظرية والتطبيق لمشاريع الإصلاح، وهي المهمة التي نرى وجوب أن يضطلع بها الجيل الثالث للإصلاح، نقترح العمل على ما يلي:
– التصنيف المجالي لأفكار الإصلاح ومشاريعه بحسب الاستجابات الاجتماعية لتلك الأفكار، ووضعها وضعاً ملائماً للاستفادة والتطبيق، على سبيل المثال: يتم تصنيف الأفكار الإصلاحية والاجتهادات المعرفية في ميادين: التربية والتعليم، والاقتصاد، والسياسة، والاجتماع، والفقه، والحضارة، بحيث يسهل درسها وبحثها من أجل التهيئة للتنزيل على الواقع الاجتماعي والحضاري للأمة.
– مراكز التفكير الوسيطة: التي تقوم بنشر الوعي الحضاري بين طبقات الأمة وفئاتها والتبشير بأفكار ومشاريع الإصلاح، وذلك حتى يتم تهيئة البيئة الحاضنة لمقاصد هذه الأفكار وقيمها.
– تأسيس مراكز البحوث والتفكير العليا التي تعمل على تنزيل أفكار الإصلاح في النظام الاجتماعي والقيمي للأمة.
– تأسيس جامعات حضارية تقوم على مبدئية الاجتهاد المعرفي، التي تعمل على تطوير وتحسين وتشغيل هذه المشاريع من خلال بلورة معرفية ومنهجية يكون لها الأثر الاجتماعي والحضاري في واقع ومستقبل الأمة.
ختاماً، نؤكد أن البون الشاسع بين منتوج الأمة خلال القرنين الماضيين وعقلها الجمعي يُلقي على النخب المشتغلة بعملية الإصلاح والمؤسسات التي عليها أن تضع تشغيل هذا المنتوج الفكري أمامها في القرن الجديد، وتدشين مشروع للبحث في آليات تشغيل هذا المنتوج في واقع الأمة خلال القرن الحادي والعشرين، بما يمكّن من تكوين قاعدة فكرية للعقل الجمعي في الأمة تستوعب هذه الأفكار وتعمل على تطويرها في ضوء التحديات الجديدة والمستقبلية.
وهو ما يجعلنا في حاجة إلى تكوين جيل من شاب الإصلاحيين الذين ينتمون للفكرة الإسلامية والأمة الوسط، يكون قادراً على استيعاب وتطوير هذه التراكمات الفكرية الإصلاحية الضخمة بغرض تحويلها إلى برامج تشغيل ووعي للعقل الجمعي للأمة في القرن الحالي.