لِشَهْرِ رمضان فضائلُ لا تُعدّ؛ فهو شهرُ الصيام والقيام وتلاوة القرآن، والعتق والغفران، تُفتّحُ فيه أبواب الجنان، وتُضاعفُ فيه الحسنات، وتُقال العثرات، وتُغفرُ الزّلّات، ويَمُنُّ الله فيه على المؤمنين بعديد العطايا والكرامات.. وقد ميّزه الله تعالى على سائر الشهور، فأنزل فيه القرآن؛ (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) (البقرة: 185)، وفرض صيامه؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: 183)، وهو شهر الصبر والدعاء، والجود والإحسان، وفيه ليلة القدر التي هي خيرٌ من ألف شهر؛ (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) (القدر: 3).
النبي ﷺ في رمضان
لم يصم النبي ﷺ من الشهر الفضيل سوى تسعة مواسم؛ حيث فُرض الصيام في السنة الثانية من الهجرة ورحل صلى الله عليه وسلم في السنة الحادية عشرة، إلا أنها كانت مواسم مليئة بالطاعات والقربات؛ لعلمه بفيوضات هذا الشهر عن غيره من الشهور؛ هذا رغم ما غُفر له ما تقدم من ذنبه، لكنْ يأتي اجتهاده في الطاعة لإرشاد الأمة، وهو أحرص الخلق عليها، فكان دؤوبًا على صلاة القيام في رمضان، كان يصلي إحدى عشرة ركعة يطيل فيها القراءة، وفي العشر الأواخر من الشهر كان يحيي ليله ويوقظ أهله ويشدّ مئزره، وكان أحسن الناس خُلقًا، وكان أحسن ما يكون في هذا الشهر، ولم يدع الجهاد في رمضان، بل قاد عددًا من المعارك الكبرى خلال الشهر، ومنها غزوة «بدر»، و«فتح مكة».
أمهات المؤمنين على خطاه
وكان حال أمهات المؤمنين في رمضان هو حال النبي ﷺ؛ من حيث اهتمامهنّ بالطاعات، وانشغالهنّ بالعبادات والدعوة والوعظ بين النساء، فكانت عائشة رضي الله عنها تؤمُّ النساء وتقوم في وسط الصفِّ، أو تجمعهنّ خلف أحد مواليها، وكان النبي ﷺ يجمع نساءه وبناته فيصلي بهنّ صلاة الليل، فإذا فرغن من ذلك انشغلن بالذكر والدعاء وقراءة القرآن.
وورد عن عائشة «أنّ النبي ﷺ كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفّاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده» (متفق عليه)؛ دليل علوّ هممهنّ، واتباعهنّ سُنّة نبيهنّ حتى وإن غاب عنهنّ، وكنَّ يكثرن من الصدقة وفعل الخيرات في رمضان، ولم يرد أنهنّ انشغلن بإعداد طعام أو شراب خصيصًا لهذا الشهر.
أحوال الصحابة
على خُطى النبي ﷺ عاش صحبُهُ الكرام رمضانات عديدة، في حياته وبعد موته؛ حرصوا خلالها على مدارسة القرآن واتباع هديه في كل شيء، فكانوا يجتهدون في العبادة من صيام وقيام وتفطير صائمين وعطف على الفقراء؛ إذ كانت لهم همّة عالية في قيام الليل حتى جمعهم عمر بن الخطاب في خلافته على أُبَيّ بن كعب.
وكان ابن عمر لا يفطر إلا مع المساكين، وربما جاءه السائل فأعطاه طعامه فيصبح صائمًا ولم يأكل شيئًا، وورد أن فريقًا من الصحابة ما أفطر أحدٌ منهم على طعام قط وحده، إن وجد من يأكل معه أكل، وإلّا أخرج طعامه إلى المسجد فأكله مع الناس، وحرص سعد بن عبادة على تفطير النبي ﷺ في رمضان حرصًا على دعائه له: «أفطر عندكم الصائمون، وأكل طعامكم الأبرار، وصلتْ عليكم الملائكة» (أبو داود).
لمحاتٌ من سِيَر السلف
كان السلف يتسابقون في الخيرات في شهر رمضان، وكان جلّ عنايتهم كتاب الله تعالى؛ فمنهم من كان يختمه في القيام كل عشر ليال، وبعضهم كل سبع، وبعضهم كل ثلاث، وكان الأسود بن يزيد يختمه كل ليلتين، وكان قتادة يختمه كل سبع، فإذا جاء رمضان ختم كل ثلاث، فإذا جاء العشر ختم كل ليلة.
أما البخاري، ومالك بن أنس؛ فكانا يُقبلان على القرآن في هذا الشهر ويتركان كل شيء حتى مدارسة الحديث، وكان المازني البصري، عالم زمانه في الفقه والنحو، إذا دخل رمضان امتنع عن إنشاد الشعر حتى ينتهي الشهر، وبعضهم كان يخصص ختمة لأبنائه يجمعهم عليها.
ومن السلف، كالحسن، وابن المبارك، من كانوا يفطّرون الصائمين في رمضان ويقفون بأنفسهم على خدمة إخوانهم، كان حمّاد يطعم في شهر رمضان خمسمائة إنسان، فإذا كان يوم العيد كساهم وأعطى كل واحد مائة درهم، وذُكر أن صلاح الدين الأيوبي أقام بالقدس قبل حطين جميع شهر رمضان في صيام وصلاة وقرآن.
شهر الجهاد
ارتبط رمضان في ذاكرة الأمة بأنه شهر الجهاد، أو شهر التجارة مع الله؛ حيث يزداد فيه المؤمنون إيمانًا، وتشرق فيه نفوسهم وتعلو هممهم، ويكونون أقوى إرادة وأشدّ عزمًا.
فمن سرايا النبي ﷺ وغزواته في هذا الشهر، مرورًا بعهد الفتوحات المجيد، وانتهاء بانتصار رمضان/ أكتوبر 1973م؛ علا كعب المسلمين على أعدائهم، وسادت الدعوة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها بعد أن مهّدت لها السبيل معاركُ كبرى وفتوحات عظمى كالأندلس، وحطين، وعين جالوت، وغيرها، سطّرت صفحات مشرقة في تاريخ الإسلام، وقد حسم مغاوير الإسلام هذه المعارك على تقوى من الله وعزم قوي وروح فتية أشعلها القرآن والإيمان في نفوس من خضعت لهم الدنيا صاغرة، قبل أن يتحول أحفادهم إلى هذه الحال من المسكنة والصَغَار.
ثورة التغيير
كما بنى رمضانُ الأجدادَ ونقش أثره على سيرتهم وسيرهم، يمكن أن يعيد بناء أمتنا مهيضة الجناح إذا ما تدربنا على منهاجهم النبيل، شرعة الإسلام الصحيح، وهي شرعة أخلاقية في المقام الأول، قائمة على الأخوة، والمجاهدة، وإصلاح ذات البين، وحفظ اللسان، وإفشاء السلام، والمحبة، والتواضع، وعدم الخيانة.
وإن أعظم ما يتقرب به المسلم إلى ربه في هذا الشهر صلة الأرحام، ومراعاة الجيران، والحرص على أن يكون لكل منا دورٌ إيجابي في مجتمعه؛ لنشر الوعي بقضايا الأمة لمن اختلطت عليهم المفاهيم، والسعي في خدمة المسلمين، والتخذيل عن ضعافهم ومضطهديهم، ثم الدعاء لمجموعهم بالنصر والتمكين.