روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إذَا أفْطَرَ فَرِحَ، وإذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بصَوْمِهِ”. قال الإمام النووي: أما فرحته عند لقاء ربه؛ فبما يراه من جزائه، وتذكر نعمة الله تعالى عليه بتوفيقه لذلك، وأما عند فطره فسببها تمام عبادته.([1]) فالمؤمن يفرح عند فطره كل يوم؛ لزوال جوعه وعطشه، كما يفرح في نهاية الشهر؛ لأن الله وفَّقه لإتمام عبادته، ثم هو يفرح يوم القيامة؛ لما يرى من عظيم الأجر والثواب.
وقد أكد الحق سبحانه وتعالى أن المؤمن يفرح بفضل الله ورحمته، حيث قال تعالى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس: 58]. فما أجمل الفرح بطاعة الله، حين يؤدي المؤمن ما فرضه الله عليه من العبادات، على الوجه الذي يرضي الله سبحانه وتعالى، وهذا هو العيد الحقيقي للمسلم.
وقد جعل الإسلام العيد مظهرا من مظاهر الدين، وشعيرة من شعائره، بعد أداء العبادات، ففي نهاية عبادة الصيام يأتي عيد الفطر المبارك، وفي عبادة الحج يأتي عيد الأضحى، حيث تفرح نفوس المؤمنين بهذه الأيام المباركة.
وتتنوع مظاهر الفرحة بالعيد بين المسلمين عبر التاريخ المجيد لأمة الإسلام، ومن هذه المظاهر ما يأتي:
أولا: الاجتماع لصلاة العيد في الساحات
فقد سنّ الرسول صلى الله عليه وسلم صلاة العيد، وحث على أداءها في الأماكن الخالية، التي تستوعب الجماهير من الناس، بحيث يلتقي فيها أهل المكان جميعا، فيسعدون بهذا اللقاء، ويشهدون صلاة العيد. ولهذا حثّ الرسول صلى الله عليه وسلم الجميع على الحضور، حيث روى البخاري عن حَفْصَةَ قَالَتْ: كُنَّا نَمْنَعُ عَوَاتِقَنَا [الفتيات] أَنْ يَخْرُجْنَ فِي الْعِيدَيْنِ، فَقَدِمَتِ امْرَأَةٌ، فَنَزَلَتْ قَصْرَ بَنِي خَلَفٍ، فَحَدَّثَتْ عَنْ أُخْتِهَا، قَالَتْ: كُنَّا نُدَاوِي الْكَلْمَى، وَنَقُومُ عَلَى الْمَرْضَى، فَسَأَلَتْ أُخْتِي النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَعَلَى إِحْدَانَا بَأْسٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا جِلْبَابٌ أَنْ لَا تَخْرُجَ قَالَ: لِتُلْبِسْهَا صَاحِبَتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا، وَلْتَشْهَدِ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ. فَلَمَّا قَدِمَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ سَأَلْتُهَا: أَسَمِعْتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَتْ: بِأَبِي نَعَمْ، وَكَانَتْ لَا تَذْكُرُهُ إِلَّا قَالَتْ بِأَبِي، سَمِعْتُهُ يَقُولُ: يَخْرُجُ الْعَوَاتِقُ وَذَوَاتُ الْخُدُورِ، أَوِ الْعَوَاتِقُ ذَوَاتُ الْخُدُورِ، وَالْحُيَّضُ، وَلْيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ، وَدَعْوَةَ الْمُؤْمِنِينَ، وَيَعْتَزِلُ الْحُيَّضُ الْمُصَلَّى. قَالَتْ حَفْصَةُ: فَقُلْتُ: الْحُيَّضُ؟ فَقَالَتْ: أَلَيْسَ تَشْهَدُ عَرَفَةَ، وَكَذَا وَكَذَا». ففي هذا الحديث تأكيد على استحباب خروج المرأة لصلاة العيد، حتى تشهد الخير وتسعد به.
ثانيا: التحلي بالنظافة والزينة
فهذا أمر عام للمسلمين في كل اجتماع، حيث قال الله تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ [الأعراف: 31]، وقد شرع الإسلام الاغتسال للعيد، حيث روى ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل يوم الفطر والأضحى.([2]) ولأنه يوم يجتمع الناس فيه للصلاة، فاستحب الغسل فيه كيوم الجمعة، وإن اقتصر على الوضوء أجزأه، ويستحب أن يتزين ويتنظف ويحلق شعره ويلبس أحسن ما يجد ويتطيب ويتسوك.. ويستوي في استحباب تحسين الثياب والتنظيف والتطيب وإزالة الشعر والرائحة الكريهة، الخارج إلى الصلاة والقاعد في بيته؛ لأنه يوم الزينة فاستووا فيه.. كما يستحب تزيين الصبيان ذكورا كانوا أو إناثا؛ لأنه يوم زينة.([3])
ومن مظاهر الزينة في العيد أن يلبس المسلم أحسن ثيابه، فعَنْ زَيْدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعِيدَيْنِ أَنْ نَلْبَسَ أَجْوَدَ مَا نَجِدُ، وَأَنْ نَتَطَيَّبَ بِأَجْوَدَ مَا نَجِدُ”.([4]) وعن سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنهما قال: وجد عمر حلة إستبرق تباع في السوق، فأتى بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ابْتَعْ هَذِهِ الحلة، فتجمل بها للعيد وللوفود.([5]) قال ابن رجب: وقد دل هذا الحديث على التجمل للعيد، وأنه كان معتادا بينهم.([6]) وقال ابن القيم: فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في العيدين، وكان يلبس للخروج إليهما أجمل ثيابه فكان له حلة يلبسها للعيدين.([7]) ففي هذه الأدلة ما يؤكد على أن التحلي بالنظافة والزينة مظهر من مظاهر الفرحة بالعيد عند المسلمين.
ثالثا: التهنئة بالعيد
فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى مشروعية التهنئة بالعيد،([8]) وقد فعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، حيث أخرج الطبراني، عن حَبِيبُ بْنُ عُمَرَ الْأَنْصَارِيّ قال، أَخْبَرَنِي أَبِي قَالَ: “لَقِيتُ وَاثِلَةَ يَوْمَ عِيدٍ فَقُلْتُ: تَقَبَّلَ اللهُ مِنَّا وَمِنْكَ فَقَالَ: نَعَمْ، تَقَبَّلَ اللهُ مِنَّا وَمِنْكَ”.([9])
وقد أوجب بعض الفقهاء الإتيان بالتهنئة في يوم العيد، لِمَا يترتب على تركها من الفتن والمقاطعة. ومنه قول الناس لبعضهم: عيد مبارك، وأحياكم الله لأمثاله، لا شك في جواز كل ذلك بل لو قيل بوجوبه لما بعد؛ لأن الناس مأمورون بإظهار المودة والمحبة لبعضهم.([10])
رابعا: اللهو المباح
فمن مظاهر الفرح والسرور بالعيد أن يتمتع الناس باللهو والمرح، بشرط ألا يكون فيه معصية لله سبحانه وتعالى. ومن هذا اللهو: اللعب. فقد أخرج أبو داود عن أنسٍ رضي الله عنه قالَ: قدمَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ المدينةَ ولَهم يومانِ يلعبونَ فيهما، فقالَ ما هذانِ اليومانِ؟ قالوا كنَّا نلعبُ فيهما في الجاهليَّةِ، فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: إنَّ اللَّهَ قد أبدلَكم بِهما خيرًا منهما، يومَ الأضحى ويومَ الفطرِ. فلم يمنعهم الرسول من اللعب، بل حدد لهم أيام العيد، يلعبون فيها ويمرحون.
ومن اللهو المباح أيضا في يوم العيد: الاستماع إلى الغناء الطيب الذي لا يثير الشهوة أو يحرك الغريزة أو يصاحبه فعل محرم. ويدل على هذا ما أخرجه البخاري عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قالت: دَخَلَ عَلَيَّ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وعِندِي جارِيَتانِ تُغَنِّيانِ بغِناءِ بُعاثَ، فاضْطَجَعَ علَى الفِراشِ، وحَوَّلَ وجْهَهُ، ودَخَلَ أبو بَكْرٍ، فانْتَهَرَنِي وقالَ: مِزْمارَةُ الشَّيْطانِ عِنْدَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأقْبَلَ عليه رَسولُ اللَّهِ عليه السَّلامُ فقالَ: دَعْهُما، إنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا وهذا عِيدُنَا.. تقول السيدة عائشة: وكانَ يَومَ عِيدٍ، يَلْعَبُ السُّودانُ بالدَّرَقِ والحِرابِ، فَإِمَّا سَأَلْتُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وإمَّا قالَ: تَشْتَهِينَ تَنْظُرِينَ؟ فَقُلتُ: نَعَمْ، فأقامَنِي وراءَهُ، خَدِّي علَى خَدِّهِ، وهو يقولُ: دُونَكُمْ يا بَنِي أرْفِدَةَ. حتَّى إذا مَلِلْتُ، قالَ: حَسْبُكِ؟ قُلتُ: نَعَمْ، قالَ: فاذْهَبِي. قال ابن حجر: وفي هذا الحديث من الفوائد مشروعية التوسعة على العيال في أيام الأعياد بأنواع ما يحصل لهم من بسط النفس وترويح البدن، ومنه أن إظهار السرور في الأعياد من شعائر الدين.([11])
خامسا: مَدّ الموائد وإنفاق العوائد
ففي العيد يجتمع الأهل والأحباب على موائد الطعام والشراب، ويفرح الأولاد بما ينفقه الأهل عليهم من الأموال والهبات، وفي ذلك من التوسعة على النفس والأهل ما هو مقصود في الشرع الإسلامي، ففي الحديث الشريف عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “يومُ عرفةَ ويومُ النَّحرِ وأيَّامُ التَّشريقِ عيدُنا أهلَ الإسلامِ وهي أيَّامُ أكلٍ وشربٍ”.([12]) وفي هذا دليل على أن المسلمين يتمتعون في أعيادهم بتناول الطعام والشراب، ما دام الأمر في دائرة المباح، وقد نقل الإمام السيوطي في تاريخ الخلفاء عن أحد جلساء الخليفة “المأمون” وصفا عجيبا لتنوّع مائدته وخبرته بالطعام وفوائده الصحية؛ فقال: “تغدينا مع المأمون في يوم عيد، فوضع على مائدته أكثر من ثلاثمائة لون، قال: فكلما وضع لون، نظر المأمون إليه، فقال: هذا نافعٌ لكذا، ضارٌّ لكذا، فمن كان منكم صاحب بلغم فليتجنب هذا، ومن كان منكم صاحب صفراء فليأكل من هذا، ومن غلبت عليه السوداء فلا يعرض لهذا”!! ومن قصد قلة الغذاء فليقتصر على هذا..([13]) ويروي ابن عساكر في تاريخ دمشق، عن الوليد عن خالد بن يزيد المري، قال: رأيت مكحولا يفرق على أصحابه الزبيب يعني يوم العيد.([14])
أما هدايا العيد؛ فأصلها ما كان يصنعه الملوك من “الخِلَعَ” أي الثياب التي يُهديها السلطان تكريما للأمراء والوجهاء والأعيان. وقد حوى التاريخ الإسلامي نماذج متعددة من ذلك، ففي البداية والنهاية ذكر ابن كثير أن الخليفة المستنصر، بعث يوم العيد صدقاتٍ كثيرة، وإنعامًا جزيلا إلى الفقهاء وأئمة المساجد، على يديْ محيي الدين ابن الجوزي”.([15]) وذكر المقريزي أن الفاطميين هم من أطلقوا على هدايا العيد اسم: العيدية. حيث قال: إن الخليفة الفاطمي قرّر للشيخ أبي جعفر يوسف بن أحمد بن حسديه، لما قدم من الأندلس وصار ضيف الدولة، جار وكسوة شتوية وعيدية”.([16])
والخلاصة أن يوم العيد له فرحة وبهجة، وهو فرصة عظيمة للترويح عن النفس والتوسعة على الأهل، دون الانفلات أو التحلل من الآداب والأخلاق التي أمر الله بها ورسوله صلى الله عليه وسلم.
([1]) شرح النووي على صحيح مسلم، (8/ 31).
([2]) أخرجه ابن ماجة، (1 / 415).
([3]) الموسوعة الفقهية الكويتية، (31/ 115).
([4]) أخرجه الحاكم في المستدرك، (4/ 256).
([8]) الموسوعة الفقهية الكويتية، (14/ 99).
([9]) المعجم الكبير، (22/ 52).
([10]) الموسوعة الفقهية الكويتية، (14/ 99).
([12]) أخرجه أبو داود، (2419).