يظل البيت من النعم العظيمة التي يمن الله بها على عباده؛ حيث يجد المسلم راحته وصلاح نفسيته وكذا سكينته وملاذه من ضجيج الحياة، وصدق عز وجل: (وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا) (النحل: 80).
ولأنه من عظيم النعم كانت دعوة امرأة فرعون أن يبني سبحانه وتعالى لها بيتاً في الجنة: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ) (التحريم: 11).
والمسلم يجتهد في جعل بيته ربانياً عامراً بالإيمان تحضره الملائكة وتستدبره الشياطين، يجتهد أن يُحقق مراد الله فيه بالالتزام بالطاعات وهجر المعاصي والسيئات، عامراً بالصلاة والدعاء والذكر والقرآن وغير ذلك من أخلاق حميدة من تغافل وتغافر وإيثار.
ويظل بيت النبوة صلى الله عليه وسلم نموذجاً ومدرسة لكل من أراد أن يسمو ببيته ويكون طريقه وسبيله للفردوس الأعلى، فقد كان المصطفى صلى الله عليه وسلم يأخذ بيد زوجاته إلى كل أنواع الطاعة.
طريق صعب لكن نتيجته محتومة
مما لا شك فيه أن طريق الطاعة صعب عسير مليء بالأشواك، والزوج الآخذ بيد زوجته إلى الطاعة لا بد أن يعلم أن الطريق صعب شاق، ولا بد من صبر جميل حتى يذوقا حلاوة الطاعة، ويلمسا لذة الإيمان في قلبيهما، وعندها سيسهل كل شيء.
سُئل مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم بلال بن رباح عن سبب صبره على الإيمان مع شدَّة العنت الذي لاقاه في رمضاء مكة فقال: «مزجت مرارة العذاب بحلاوة الإيمان فطغت حلاوة الإيمان».
ويُحكى عن امرأة من العابدات أنها عثرت فانقطعت إصبعها، فضحكت؛ فقال لها من معها: أتضحكين، وقد انقطع إصبعك؟! فقالت: أخاطبك على قدر عقلك، حلاوة أجرها أنستني مرارة ذكرها.
تجلب السعادة على أهل البيت
ولأن الأغلب تعلَّقت طموحاتهم بكماليات البيت وزينته؛ فصارت الدنيا شغلهم الشاغل ظانين أنها سعادة الدارين، فكان البعد عن سعادة تعمر البيوت: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) (طه: 124).
أما من يهتمون بقلوبهم ويعمرون بيوتهم بالإيمان فوهبتهم السماء رضًا عن أنفسهم وحالهم وحياتهم، وصدق الله: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) (النحل: 97).
قومي فأوتري يا عائشة
كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل فإذا أوتر قال: «قومي فأوتري يا عائشة» (رواه مسلم)، صورة رائعة يصورها النبي صلى الله عليه وسلم عندما يستيقظ أحد الزوجين فيصلي ما يفتح الله عليه به ويأخذ بيد شريك حياته الذي يتمناه في الفردوس الأعلى زوجاً، لكن ربما كسلاً لا يقوم من نومه فينضح في وجهه الماء حتى ينشط ويشاركه الطاعة، قال صلى الله عليه وسلم: «رحِمَ اللَّهُ رجلًا قامَ مِن اللَّيلِ فصلَّى وأيقظَ امرأتَه، فإن أبَتْ نضحَ في وجهِها الماءَ، رحِمَ اللَّهُ امرأةً قامَت مِن اللَّيلِ وصلَّتْ وأيقظَتْ زَوجَها فإن أبَى نضَحَتْ في وجهِه الماءَ» (وراه أبو داود).
ويحرص الزوج على جعل نصيب من صلاته في بيته كصلاة السنن والنوافل؛ حتى يعمر البيت ويتأسى به أهل بيته، قال صلى الله عليه وسلم: «صَلُّوا أَيُّهَا النَّاسُ فِي بُيُوتِكُمْ، فَإِنَّ أَفْضَلَ الصَّلاَةِ صَلاَةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلاَّ الْمَكْتُوبَةَ» (متفق عليه).
القرآن الكريم
ولكي يصل البيت إلى مراده ويُصبح بيتاً ربانياً، عليه أن يستمسك بحبل الله الممدود من السماء لأهل الأرض، فهو من أفضل الوسائل التي تعمر البيوت بها نوراً ورحمة وبركة وعلاجاً لكل أمراض القلوب، فالشياطين تفر من بيوت يقرأ فيها بعض سور من القرآن الكريم، قال صلى الله عليه وسلم: «.. إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ مِنَ الْبَيْتِ الَّذِي تُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ» (رواه مسلم).
القرآن الكريم في البيوت يوسع ضيق الصدور والدور وصدق النبي صلى الله عليه وسلم: «الْبَيْتُ إِذَا تُلِيَ فِيهِ كِتَابُ اللَّهِ اتَّسَعَ بِأَهْلِهِ، وَكَثُرَ خَيْرُهُ، وَحَضَرَتْهُ الْمَلَائِكَةُ، وَخَرَجَتْ مِنْهُ الشَّيَاطِينُ، وَالْبَيْتُ الَّذِي لَمْ يُتْلَ فِيهِ كِتَابُ اللَّهِ، ضَاقَ بِأَهْلِهِ، وَقَلَّ خَيْرُهُ، وَتَنَكَّبَتْ عَنْهُ الْمَلَائِكَةُ، وَحَضَرَهُ الشَّيَاطِينُ» (رواه ابن أبي شيبة).
بل تفرق بين البيوت، فالميت منها لا يقرأ فيها القرآن ولا تعود لها الحياة إلا به، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثل الحي والميت» (رواه مسلم).
حسن الخلق
ومما يميز البيت المسلم حسن الخلق، ونموذج ذلك إحسانه صلى الله عليه وسلم إلى جاره، فكان وصيته لأمته فقال: «ما زالَ يُوصِينِي جِبْرِيلُ بالجارِ، حتَّى ظَنَنْتُ أنَّه سَيُوَرِّثُهُ» (رواه البخاري)، وقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كان يُؤمن بالله واليوم الآخر، فليُكرِمْ جارَه» (رواه البخاري)، ويكون ببشاشة الوجه والتفقد وعدم الإيذاء وإسداء الهدية والنصح له ومشاركته لفرحه وتألمه لألمه.