ليس بوسع أحد أن ينكر أن الرأسمالية تعرضت وما زالت لانتقادات شديدة من قبل الكثيرين، وهي الانتقادات التي تصاعدت حدتها في الماضي نتيجة الاختلالات البنيوية والوظيفية التي أصابتها في الفترة التي أعقبت أزمة الكساد العظيم في آخر العشرينيات وبداية الثلاثينيات من القرن الماضي.
وقد استمرت الانتقادات مع اتخاذ الرأسمالية شكلاً ممنهجاً وعميقاً من الناحية الفكرية في مرحلة ازدهار الفكر الماركسي وتأويلاته، وتنامي قوة الدولة الاشتراكية المتمثلة في الاتحاد السوفييتي، وبالتوازي مع ظهور ما أطلق عليه «الليبرالية الجديدة» في السبعينيات التي أرادت أن تقفز على جهود إصلاح الرأسمالية ودولة الرفاة خلال عقود الأربعينيات والخمسينيات والستينيات، فدعت إلى خفض الإنفاق على الرعاية الصحية وتفعيل الضمانات الاجتماعية وتقليص دور الدولة، وهي الإجراءات التي عملت بها الرأسمالية طيلة العقود السابقة على السبعينيات.
غير أنه وللحقيقة، فإن كل ما تعرضت له الرأسمالية من حملات انتقادات لم يكن كفيلاً بإسقاطها، بل كانت تخرج غالباً بعد كل حملة أكثر قوة، وهي المسألة التي تحتاج بكل تأكيد إلى كثير نظر في الأسباب وراء ذلك، وهل اكتسبت الرأسمالية حصانتها ضد التهاوي نتيجة القوة العسكرية والحملات الاستعمارية والتقدم التكنولوجي والقوة الناعمة، وغير ذلك مما امتلكته الدول الرأسمالية ونجحت من خلاله في أن تكون الغلبة دائماً لها ولقيمها؟ أم أن ثمة أسباباً أخرى تتعلق بخلل أكبر وأعمق في الفكر الاشتراكي بمختلف مدارسه، فضلاً عن التواطؤ الجمعي على تهميش ما عدا المدرستين من منظومات قيمية أكثر وعياً وإنسانية وأهمها المدرسة الإسلامية؟
التعليم ومرونة الرأسمالية
ربما يرى البعض من المفكرين الليبراليين أن أهم الأسباب وراء صمود الرأسمالية هو قدرتها على التكيف مع الأوضاع المتغيرة، وعلى التأثير في هذه الأوضاع عن طريق تغيير أنماط البشر بما ينسجم مع آلياتها، ومن ثم يساعد ذلك في توطيد أركانها، وهو إلى حد كبير سبب وجيه ومهم لا يمكن التغافل عنه؛ إذ يمكن أن نراه متجسداً في العديد من الصور، يبرز منها العملية التعليمية التي للرأسمالية طريقتها الخاصة في التعاطي معها؛ إذ نجحت في أن تطوعها لتصبح إحدى الوسائل الحيوية للإبقاء على زخم الرأسمالية.
ولا نقصد بما سبقت الإشارة إلى الجانب الخاص بالتربية الموجهة نحو تبني خيارات أيديولوجية بعينها، فهذا مع أهميته القصوى مما يشترك فيه مع الرأسمالية كل الأيديولوجيات الأخرى المتفقة معها جزئياً أو المختلفة معها جملة وتفصيلاً، ولكننا نقصد البعد الفلسفي للعملية التعليمية ذاتها وتحويلها إلى سلعة، كما تم تحويل كل شيء إلى سلعة.
التعليم والربح
ليس خافياً أن الرأسمالية تقوم وباستمرار بمحاولة تطويع كل شيء ليحقق الربح والمكسب، وهو نفس ما ينطبق على العملية التعليمية، فالتعليم كغيره من بقية السلع والخدمات التي يتم تقديمها في النظام الرأسمالي التي يجب أن تخضع لعملية تدوير تستهدف الربح أيضاً، ومن ثم فإن أهم ما تراعيه فلسفة التعليم في الرأسمالية ما يخدم على مصالحها فتتحول المدارس والمؤسسات التعليمية لمجرد أدوات ربحية، أو كما يقول أحد الاقتصاديين: «الهدف الحقيقي من إعادة هيكلة التعليم بدافع سوقي هو جعل النظام التعليمي بكامله أمراً اقتصادياً؛ ما يعني تجريد التعليم من غرضه الإنساني بشكل كلّي»، فلا تنشغل الرأسمالية بمعدلات الأمية بين غير القادرين أو دفن الكفاءات بين من لا يملكون.
وعليه تصبح العملية التعليمة برمتها منهجاً للعمل على إعداد وتهيئة عمالة مستقبلية للقيام بتلبية احتياجات النخبة الرأسمالية في مختلف المجالات الصناعية والتجارية والزراعية وغيرها، وبما يحقق معيارين أساسيين؛ الأول: أنها رخيصة، والثاني: أنها خاضعة لا يمكنها أن تخرج عن إطار حدود المنظومة الرأسمالية، بل تدافع عنها وتتماهى مع قيمها، بل تساهم في تربية أبناء الجيل الجديد على هذه القيم، وهو الهدف الذي يمكن أن يتوافر في شكلي المجتمعات الرأسمالية دول المهد التي ولدت فيها الرأسمالية وترعرعت كالمجتمعات الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية، ومجتمعات «الذَّيْل» الخاضعة اختياراً أو جبراً للمنظومة الرأسمالية.
تعليم السوق
وبالطبع، فقد انعكست هذه الرؤية على واقع التعليم بشكل سلبي وخطير، خاصة على مجتمعات «الذَّيْل»، فقد أضحت العملية التعليمة خاضعة للمعايير السوقية، وأصبحت جزءاً مما يطلق عليه الاقتصاديون «مجتمع السوق».
في هذا المجتمع يكون توجيه النشء باتجاه ما يحتاجه السوق متمثلاً في الشركات والمؤسسات الرأسمالية، ليختصم ذلك بكل تأكيد من قيمة بعض العلوم التي وبحسب النخبة الرأسمالية ومن يدور في فلكهم لا تحتاجها السوق؛ الأمر الذي دفع بالبعض إلى التسخيف من خريجي بعض الجامعات والكليات التي تدرس العلوم الإنسانية، كون أن السوق لا تحتاج إلى خريجي هذه الجامعات، وهي نظرة رأسمالية سطحية تغفل أولاً عن قيمة كل العلوم، وثانياً عن تشابكها، وثالثاً عن أبعادها القيمية والحضارية والإستراتيجية لكل بلد على حدة، وأخيراً لم تتبنها حتى اللحظة أعتى الدول الرأسمالية الكبرى.
تسليع التعليم
كذلك، فقد امتد خطر الرؤية الرأسمالية للتعليم إلى بعدين لا يقلان خطراً عما سبق، يتمثل أولهما في العمل على وجود طبقية تعليمية ومن ثم طبقية بين الخريجين، فبعضهم تلقى تعليمه في مدارس وجامعات حكومية، وبعضهم في مدارس وجامعات خاصة، وبعضهم في مدارس «إنترناشيونال»، وجامعات أجنبية.. وهكذا، وهو ما أوجد حالة من التفاوت الشديد في الكفاءات ليكون لكل فرص عمله.
وبالطبع، فإن فرص العمل ستكون للذين تلقوا تعليماً يلبي احتياجات السوق، فيما تكون البطالة للآخرين، كما سيتسبب ذلك في اندلاع صراع وتنافس شديد داخل كل طبقة لإلحاق أبنائهم بالتعليم الأفضل؛ فتتحول حياتهم لـ«مطحنة»، فضلاً عن القضاء على دوافع الاجتهاد والتفوق لدى أبناء الطبقة الفقيرة الذين كانوا بتفوقهم يمكنهم الالتحاق بطبقة أعلى وهو ما يصب في نهاية الأمر لصالح الرأسمالية.
وثانيهما يتمثل في تشويه صورة المعلم والانتقاص من مهمته الرسالية، ففي ظل الرأسمالية يتحول المعلم إلى مجرّد مدرب للأشياء التي تحتاجها السوق، كما يصبح ووفقاً لعقلية الرأسمالي التي تنظر لكل الأمور من مبدأ «التشيؤ» أشبه بالتاجر الذي يتعامل مع التعليم كسلعة، ليكون أهم ما يشغل المعلم هو جمع المال دون الالتفات إلى ما سواه، سواء كانت عملية تلقين العلم أو التوجيه التربوي؛ وهو ما ساهم في إيجاد علاقة غير سوية فيما بين المعلم والطالب، فالمعلم ليس إلا تاجراً، والطالب ليس إلا «زبوناً» معه المال يشتري ما يريد وقتما يريد.
وثمة بُعد آخر لانعكاس الرأسمالية على التعليم يتعلق بمستقبل قطاعات عريضة من المتعلمين، وبينهم فئة من الحاصلين على أعلى الشهادات إلا أنهم فقدوا القدرة على مسايرة احتياجات السوق أو أبوا أن يخضعوا لآلياته، فما كان إلا أن أضحوا من المهمشين الذين يعانون شظف العيش، في مقابل فئة ممن خضعوا خضوعاً كاملاً لآليات السوق دون أي اعتبارات، حتى لو كانت مبتذلة ومناقضة للقيم المجتمعية؛ إذ الأهم لدى هؤلاء هو الحصول على المال بأي شكل.
وبالطبع، فقد أفرز هذا الوضع صورتين متناقضتين، إحداهما لأناس بذلوا الكثير من الوقت والجهد للتحصيل العلمي، والأخرى لأناس لا يمتلكون أي مهارات سوى الابتذال، وهي بلا شك تناقضية قد تدفع الكثيرين للإحجام عن التعليم.