منذ تمت نبوءة الرسول صلى الله عليه وسلم: «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين»(1)؛ تكونت على إثر ذلك المجتمعات المسلمة، وأخذت هويتها من قيم وأخلاق الإسلام وشرائعه، وكان اختلاط المسلمين بأهل البلاد الأصليين غير مانع لهم من الاحتفاظ بهويتهم، المؤسسة على قيم القرآن والسُّنة.
مع اتساع رقعة الإسلام، نشأت المؤسسات العلمية في العراق والشام والحجاز ومصر والمغرب العربي، وكانت هي حصون الدفاع والتأسيس، ترسم الشخصية السويَّة، وتتبنى هموم المجتمع.
من أبرز تلك المؤسسات الأزهر الشريف، الذي تأسس مع تأسيس مدينة القاهرة، وبدأت الصلاة فيه عام 361هـ، وظل يرعى علوم المؤسسين له العبيدين، حتى زوال دولتهم، وأغلق بعدها الأزهر مائة عام، حتى افتتحه بيبرس عام 672هـ، ومنذ ذلك الحين والأزهر يقوم بدوره العلمي في الحفاظ على هوية الأمة.
من المواقف المشهودة للأزهر وعلمائه تجاه الهوية السياسية للأمة موقفه من كتاب «الإسلام وأصول الحكم»
اشتمل الأزهر على 16 رواقاً للوافدين، وعلى 12 رواقاً لأهل مصر، وفي ظل الزمن الطويل الذي عاشه الأزهر كمؤسسة ومشيخة رسمية لها تقاليدها، كان الحفاظ على الهوية أهم ما قام به تجاه الأمة.
مظاهر الحفاظ عل الهوية
الهوية مجموع السمات والأنماط السلوكية والخصائص التي تميز الشخص أو المجتمع عن غيره، قد تتشكل وفق الزمان أو المكان، أو الثقافة، أو الدين، ونشير هنا لقضايا بارزة حافظ الأزهر فيها على هوية الأمة:
– الأزهر واللغة:
اللغة إحدى محددات الهوية وأهم العناصر التي تقوم عليها، والأمم حين تفرط في لغتها تتغير سلوكيات أفرادها بأسرع من البرق، وقد اعتنى الأزهر باللغة عناية فائقة، فحين أنشأ محمد علي مدرسة الألسن عام 1836م، استقت المدرسة طلابها من الأزهر، وقام على تدريس اللغة العربية والأدب العربيّ فيها أبناء الأزهر، وكانت الكتب التي تدرس بها كتب الأزهر؛ كالأجرومية، والسنوسية، وغيرهما، وكتب العلوم الحديثة التي يراد نقلها إلى العربية، كان يقوم بترجمتها، ويسهر على تصحيحها أبناء الأزهر؛ فأسس هذا للنهضة الأدبية التي حدثت على يد البارودي، والمنفلوطي، وشوقي، وحافظ إبراهيم، والرافعي، وغيرهم من الشعراء والكتَّاب والمؤلفين.
– الأزهر في مواجهة الفكر السياسي المنحرف:
من المواقف المشهودة للأزهر وعلمائه تجاه الهوية السياسية للأمة، موقفه من كتاب «الإسلام وأصول الحكم» للشيخ علي عبدالرازق، وهو الكتاب الذي يصفه د. محمد عمارة بقوله: «منذ عرفت الطباعة طريقها إلى بلادنا لم يحدث أن أخرجت المطبعة كتاباً أثار من الضجة واللغط والمعارك والصراعات مثلما أثار هذا الكتاب.. وقد ترتب على صدوره معركة لم يسبق أن دار حولها كتاب من الكتب في بلادنا»(2).
لقد تعرض الكتاب لأحد الثوابت السياسية في فقهنا الإسلامي، فنزع مستقراً فيه، فجاء حكم الأزهر يعيد الأمور لنصابها، متصدياً بحزم لأحد أفراد هيئته، وفصلته منها لأنه صادم بكتابه أحد محددات الهوية للأمة.
وقد تصدى الأفراد الأزهريون لفكر الكاتب، فكتب الشيخ الخضر حسين، شيخ الأزهر، رداً عليه، وكذا كتب الشيخ بخيت المطيعي، وهكذا وقف الأزهر؛ مؤسسة وأفراداً، للانحراف عن الفكر الصحيح والتصور الراشد لشكل الحكم الإسلامي، وهو جانب يتماس مع الهوية تمام التماس.
– الأزهر والمحتل:
تصدى علماء الأزهر للاحتلال، وكان العلماء والطلاب الأزهريون أهم حوائط الصد أمام الغازي المحتل، وكانوا هم من يحركون العامة ضد الاحتلال، بل ضد البغي والظلم والعسف الذي مارسه بعض الأمراء.
ولا شك أن تضامن الأزهر كمؤسسة، وكأفراد ضد الغازي المحتل هو من صلب المحافظة على الهوية؛ لأن المظالم حين يمارسها المحتل أو الحاكم تحوِّل أخلاق الناس، وتجعلهم يتنازلون عن سماتهم الحضارية، لما ينتج عنه من الذل والمهانة للمظلوم.
العلماء والطلاب الأزهريون كانوا أهم حوائط الصد أمام الغازي المحتل وضد بغي وظلم وعسف بعض الأمراء
حدث هذا مع الاحتلال الفرنسي، وحدث مرات عديدة مع بعض الأمراء، حيث أمر الشيخ الشرقاوي بغلق الجامع الأزهر، كتعبير عن عصيان مدني لمظالم الأمراء، ويعقب أ. محمود شاكر على ذلك قائلاً: «ثورة المشايخ على المماليك جزء من اليقظة، انتهت بإعلان المماليك توبتهم ورجوعهم عن مظالمهم، وتبينوا أن مشايخ الأزهر قد صاروا طليعة هذه اليقظة وقادتها، وأن سلطانهم على العامة والجماهير قد أرهب المماليك وأفزعهم»(3).
– الأزهر والقضايا المعاصرة:
زُرع الكيان الصهيوني في قلب العالم العربي والإسلامي كالشوكة، وظل موقف الأزهر حيال زيارة القدس في ظل سيطرة الكيان ثابتاً، حيث منع وحرم زيارة القدس طالما بقي الاحتلال قائماً، ووقف من التطبيع موقفاً شديداً، كما رفض جل شيوخه استقبال قادة الكيان ومسؤوليه.
ومن المواقف التي تبناها الأزهر كمؤسسة رفضُ الشيخ جاد الحق، شيخ الأزهر، وثيقة مؤتمر السكان بالقاهرة، ورفض وثيقة المرأة الصادرة عن مؤتمر بكين عام 1995م؛ لما تضمنتا من ترسيخ للانحلال الأسري القاضي على الهوية الراسخة للأمة.
وتصدى الأزهر لبدعة تخالف هوية الأمة والمجتمع؛ وهي اختيار ملكة جمال النيل، فكتب الشيخ جاد الحق مقالة بعنوان «أوقفوا هذا العبث باسم وفاء النيل»، ولم يرق له أن ينساق المجتمع المصري المسلم نحو هذه العادة الغربية الفاحشة في فحص الأجساد وعرضها باسم ملكة الجمال!
وتصدى شيوخ الأزهر لظاهرة التكفير التي برزت في المجتمعات وخاصة المجتمع المصري، وكانوا هم الوحيدين الذي ناظروا التكفيريين، وأحدثوا خللاً في طرائق تفكيرهم، وكتب الشيخ يوسف القرضاوي كتابه «ظاهرة الغلو في التكفير» كبيان شاف حول هذه الظاهرة التي تنال من هوية الأمة الوسط في مسائل الإيمان بين من يكفر بالذنب، ومن يعتبر التلفظ بالإيمان وحده كافياً، حتى ولو ارتكب صاحبه سائر الموبقات.
وكانت مواقف الأزهر حيال بعض الكتابات والأعمال الفنية التي تجسد الصحابة، أو تروم تجسيد الأنبياء واضحة لا جدال فيها، فهي تمنع ذلك حفاظاً على هوية الأمة ودينها من أن تنهار المثل العليا في حياتهم، فالمُثل العليا أحد مكونات الهوية، وأحد المنارات التي تظل الأمم تتمثلها وتلبس عباءتها.
موقف الأزهر من الإجرام الصهيوني لا يزال الأفضل في المواقف وأقرب لهوية الأمة وقضيتها النازفة في غزة
تعد المواقف والإنتاج العلمي لشيوخ العصر كالشيخ مصطفى المراغي، وعبدالمجيد سليم، والخضر حسين، وعبدالحليم محمود، ومتولي الشعراوي، ومحمد الغزالي، ويوسف القرضاوي، وعبدالله دراز.. وغيرهم من المشايخ أحد أهم عوامل الحفاظ على الهوية؛ نظراً لأثرهم البالغ في عموم الناس، وتبنيهم بجسارة قضايا الأمة المتعلقة بهويتها وشخصيتها الفريدة.
بل القامات الكبرى التي أسهمت في الحفاظ على شخصية الأمة وهويتها من رجالات دار العلوم، كانوا من أبناء الأزهر، حيث كان النابهون من الأزهريين ينتقلون إليها، فإذا أضفنا لذلك الجمعية الشرعية بمؤسسها الشيخ الأزهري خطاب السبكي، وجماعة أنصار السُّنة بمؤسسها الشيخ الأزهري حامد الفقي، وما كان لهاتين الجمعيتين من أثر بالغ في الحفاظ على هوية الأمة وشخصيتها؛ عرفنا كيف كان الأزهر أحد أهم الحصون التي عرف الأعداء أهميته، حتى كتب جلال كشك «ودخلت الخيل الأزهر»؛ حسرة لما حدث له.
ولا يزال موقف الأزهر متمثلاً في شيخه الشيخ أحمد الطيب من الإجرام الصهيوني هو الأفضل في المواقف وأقرب لهوية الأمة وقضيتها النازفة في غزة.
_____________________
(1) أخرجه أحمد، وهو صحيح.
(2) معركة الإسلام وأصول الحكم، ص12.
(3) رسالة في الطريق إلى ثقافتنا، ص 129.