إن مناسك الأمة وشعائرها مدخل من مداخل تماسكها وتجديد معاني وحدتها، فالمناسك في الشريعة الإسلامية تقوم بدور لحمة الأمة التي لا غناء عنها لتجسيد مفهوم الأمة الواحدة نظريًا وعمليًا، وعلى هذا جاءت الصلاة والزكاة والحج والصوم كلها تربط وشائج الأمة في الزمان والمكان، وهذا الرباط يقصد تحقيق وحدة أمة القرآن على مستوى النظر والعمل، والفكر والأداء؛ (إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء: 92).
إن نسك الهدي (الأضحية) من بين هذه المناسك التي تعزز وحدة الأمة، وطريقة في تكافل الأمة وتجديد إيمانها، هذا التكافل الذي يتضمن في جوهره الجوانب المادية والمعنوية في آن واحد، إن الاستجابة لأمر الله تعالى (سواء أكان ذلك للحجيج أو لغير الحجيج)، فإنه يقصد به هذا الطريق، طريق تعاضد الأمة وتلامحها، وتواصلها الاجتماعي في أيام هي الأفضل عند الله تعالى والتي لا يماثلها شيء إلا أيام الجهاد في سبيل الله تعالى، ويقدر الله أن تحيا الأمة أفضل أيامها في هذا الزمان والمكان معًا أيام الحج وأيام الجهاد.
دوائر التكافل الاجتماعي في عبادة النحر
أشارت الكتابات العلمية الفقهية إلى أن هناك 3 دوائر لعمل تكافل الأضحية أو عبادة النحر؛ الأولى: دائرة الفرد نفسه (الناحر)، والثانية: الأقارب والجيران، والثالثة: الفقراء وأصحاب الاحتياج، وهناك تقسيمات أخرى تندمج في هذه الثلاث بشكل أو بآخر، إن الملاحظ في هذه الدوائر الثلاث أنها تشكل شبكة علاقات الأمة في حلقاتها المترابطة التي تبدأ بالفرد ثم الجيران والأقارب ثم عموم المسلمين.
إن دائرة وحدة الفرد -الذي يقوم بالنحر والأضحية- هي الوحدة المركزية في هذا العمل، إذ يقوم بعملٍ صالحٍ ونافعٍ وطاعة واجبة أو مندوبة، وهذا المسلم الذي يعتبر لهذه العبادة غير كاسل ولا بليد، يفكر ويخطط لهذا العمل النافع الصالح من أجل أن يؤدي حق الله الذي عليه، والذي هو حق الناس في ذات الوقت، وهذه الدائرة الفردية في فعاليتها تتعلق بالدائرة الاجتماعية الأقرب (الجيران والأقارب) على سبيل إحياء الود وصلة الرحم وتجديد شبكة علاقات الأمة التي يمكن أن تكون في فترت خلال العام، وكأن عبادة «النحر» تجديد لشبكة علاقات المجتمع وإحياء لها من الموات الذي يهددها بسبب طغيان المادية على الحياة المعاصرة، إن قيام الفرد بالوصل والاتصال بهذه الدائرة ليس عملًا ماديًا بحتًا كما في ظاهره، بل هو عمل معنوي إيماني اجتماعي بامتياز، إذ إنه يحيي الذكرى بشبكة قيم الجيرة والرحم، من خلال هذا التواصل المادي في ظاهره.
أما الدائرة الثالثة: الفقراء وأهل الاحتياج جميعًا؛ (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) (الحج: 28)، إن هذه الفئة تحتاج إلى تكافل طوال العام من موارده المختلفة، وفي أيام العيد أكثر ضرورة واحتياجًا، إن شعور الفقراء أنهم جزء من لحمة المجتمع ومن مكوناته الأساسية أمر يعود بالطمأنينة على هذه القلوب التي ربما تشعر في أحيان كثيرة أنها خارج شبكة علاقات المجتمع بسبب ضعفها أو فقرها، فتستعيد الشعور بوحدة الأمة في هذا التواصل المتجدد، فيستقيم شعورها ويهدأ بالها وتطمئن أن الأمة تشاركها كل مشاعر التضامن والتكافل.
إن مشاعر التواد والرحمة التي يمكن تجديدها لدى فقراء المسلمين من خلال عبادة «النحر» لا يمكن حصر أبعادها ومقاصدها، إلا أنه يمكن جمعها في قيمة واحدة تحيا وتتجدد وهي قيمة الأمة الواحدة.
الأضحية ووحدة ناظم الأمة
بُعد آخر من أبعاد عبادة النحر؛ وهو تجديد ذلك الرباط الإيماني للأمة المسلمة، تلك الأمة التي أسس النداء لها إبراهيم عليه السلام، في رحلته وهجرته عبر حضارات متعددة، وتقديم قيم متعددة أظهرها قيمة العطاء والامتثال لأمر الله تعالى في أمر الله له بذبح ابنه إسماعيل عليه السلام، وجاء الفداء من الله، واستمرت هذه السُّنة وأحياها النبي امتثالًا وفريضة قرآنية، ودعوة لتجديد ناظم وحدة أمة الإسلام التي دعا إليها أبو الأنبياء ومن بعده الأنبياء جميعًا.
قال تعالى على لسان نبيه إبراهيم عليه السلام في تأسيسه للأمة المسلمة: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة: 128)، فارتبط دعاء التأسيس لهذه الأمة بالمناسك والنسك التي هي ناظم من نواظم وحدة الأمة واتصالها غير المنقطع بجذورها الإيمانية البعيدة.
التجديد الأفقي والرأسي لقيم تكافل الأمة ووحدتها
إن غرس طاعة «النحر» والقيم المتولدة عنها في نفوس النشء يحقق أمرين؛ الأول: تحقيق التواصل الاجتماعي الأفقي لشبكة علاقات الأمة القائمة وتجديدها، وتحقيق روح كفالة الأمة لبعضها بعضاً، وهو أمر من شأنه أن يعزز علاقات الأفراد والطبقات الاجتماعية في الأمة، ويهذب المشاعر، ويقلل من مشاعر الحنق أو الحقد التي قد تصيب بعض فقراء الأمة والبائسين فيها إذا تناستهم الأمة في مثل هذه الأيام والليال الكريمات.
الثاني: تحقيق التواصل الرأسي مع الأمة المسلمة التي أسس لها أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، وتمكين الشعور الإيماني في نفوس النشء بهذا الرباط الإيماني العظيم.
غزة وتكافل الأمة ووحدتها
إن تجديد الرباط الاجتماعي والإيماني للأمة المسلمة في ضوء عبادة «النحر» لا يمكنه أن يتحقق أو يتجدد دون النظر إلى أحقية هذا الرباط والوصل به الآن إلى أهلنا في غزة، ليس من باب الشفقة والتراحم، بل من باب العزة والكرامة، إن احتياج المسلمين الآن إلى إظهار قيم التكافل والوحدة في هذه العبادة السنوية في غزة أكثر من احتياج غزة إليه، إن تدشين حملة عربية إسلامية عظيمة لإيصال عمل عبادة النحر إلى هذه الأرض المباركة، يعني أن يتحقق في الأمة صدق الإيمان وصدق الأداء.
إن تدشين حملة إيصال عمل هذه العبادة إلى غزة المكرمة يجنب المسلمين أن تكون شعيرة النحر هذه مجرد عمل اجتماعي يخلو من الإيمان، ومن مقاصد أداء العبادة، إن لكل عبادة مقاصدها، وإذا فُقدت هذه المقاصد، فُقد معها معنى العبادة القائمة.