يأتي الحج كل عام ليذكرنا بهويتنا، وليوقظ في قلوبنا العاطفة الإيمانية الخامدة، وليصحح المفاهيم الفكرية الباهتة، وليعيد إلينا ويعيدنا كذلك إلى الرابطة الإسلامية الصافية.
ومن أبرز ما يذكرنا به الحج اليوم أننا أمة واحدة، نعم أمة واحدة مسلمة، وليست كذلك فحسب، ولكنها خير أمة أخرجت للناس: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) (آل عمران: 110).
يذكرنا الحج بأننا مهما تباعدت بيننا الأوطان، وتشعبت بنا المسارات، فإن قبلة واحدة نستقبلها في كل صلاة، ورباً واحداً ندين له بالعبودية، وشريعة واحدة نحيا وفق منهجها، وكتاباً واحداً نسلك سبل الهداية بأنواره، ونبياً كريماً مع ثلة كريمة ممن اصطفاهم الله تعالى برسالته لنقتفي أثرهم؛ (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ۗ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ۖ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْعَالَمِينَ) (الأنعام: 90).
يُذكرنا الحج بأن الملابس التي نتزيا بها لا تدل على حقيقة علاقتنا، والعطور التي نتطيب بها لا تحدد مساحة رابطتنا، والأعلام التي نرفعها ليست مصدر قوتنا، والألوان التي تفرق بيننا ليست دلالة تمايزنا، واللغات التي نختلف في نطقها ليست مبعث فخارنا، وإنما مصدر قوتنا ومبعث فخارنا، وقوة رابطتنا، وعمق علاقتنا يكمن في صدق انتسابنا للإسلام، واتباعنا للنبي صلى الله عليه وسلم؛ (وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً) (المائدة: 3).
ويأتي الحج هذا العام في وقت تداعت فيه الأمم على أمتنا، وتكالبت فيه قوى الطغيان الدولي على مقدساتنا وراية ديننا، وأول قبلة لنا، والأمة تنظر يميناً ويساراً تسأل في ذهول وتتعجب: هل من ناصر لإخواننا؟! وهل من مدافع عن أرضنا وعرضنا وكرامتنا؟! بل إن السواد الأعظم من أبناء تلك الأمة يتطلعون في شوق بالغ إلى شرف الفوز بموقف صدق مع إخوانهم في الثغور والرباط يحققون به نصرة دينهم ومقدساتهم وإخوانهم، وينالون به مرضاة ربهم.
يُذكرنا الحج بأننا أمة الجسد الواحد، وإننا في مناسك الحج نتخلص من كل مظاهر التمايز والتنابز، وندرك أن الفوز بثواب الحج مدخور لمن قدم الأخوة الإسلامية على غيرها، وظهر ذلك في سلوكه ومنطقه ومظهره ومخبره، فبقدر حمايته للأخوة من الجدال والمخاصمة والتعدي بكل صوره، بقدر فوزه بمغفرة ذنوبه ورفع درجاته.
يُذكرنا الحج بأن المسلم أعظم حرمة من الكعبة، وأن دمه وعرضه وماله حرام كحرمة المناسك، وحرمة المكان وحرمة الزمان، وأن ما نعانيه من خذلان لإخواننا، وتقاعس عن تحرير مقدساتنا، لا علاقة له بالحج ولا بالإسلام، بل ويدل دلالة قاطعة على أننا لم نراع أدنى حقوق الأخوة الإسلامية، ولم نستوعب أول دروس الحج، ولم نفهم أبرز مقاصده!
يُذكرنا الحج بأننا أمة تتبلور مكانتها في الالتزام بشرع ربها، فتتعلم في الحج الوقوف عند حدود ربها، فللطواف عدد ووقت، وللسعي كذلك حد وعد، لا يجوز الزيادة فيه أو النقصان، ولعرفة زمنها وحدودها، ولمنى كذلك أحكامها وأوقاتها وحدودها، لتدرك الأمة أن لكل زمن في حياتها عباداته الخاصة، فلا تهملها ولا تؤجلها، فلكل وقت واجباته ولكل مكان أحكامه.
يُذكرنا الحج بأننا الأمة الأَوْلى بإبراهيم عليه السلام، فنحن أمة التوحيد أهل الحنيفية السمحاء، فلا والد ولا ولد، ولا صاحبة ولا شريك ولا كفؤ ولا مثيل، فهو ربنا الواحد الصمد؛ (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا ۗ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران: 68).
نحن أولى بإبراهيم عليه السلام لأننا من اتبعنا هديه، فالقرابة ليست مجرد نسل ينتسب إليه الإنسان، إنما القرابة الحقة والانتساب الصادق والنسب العريق هو ذلك النسب القلبي الذي ربط بين قلوب المؤمنين السالكين على مدار العصور والأزمنة مهما اختلفت اللغات والبيئات والأسماء والمسميات، قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات: 10)، أما غير ذلك فإن القرآن قد أهدر تلك الأنساب التي قامت على غير طاعته، فقد قال تعالى لإبراهيم عليه السلام حينما استمر في الاستغفار لوالده، وقد علل القرآن حرص إبراهيم على الاستغفار الدائم لوالده بقوله تعالى: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ۚ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (التوبة: 114).
وقال لنوح عليه السلام لما استفسر عن عدم نجاة ولده مع أن الله وعده بنجاته وجميع أهله؛ (قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ۖ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ۖ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۖ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) (هود: 46).
لذا، فتلك التبعية والعلاقة والصلة نراها في كل منسك من مناسك الحق تؤكد عمق العلاقة ونحن نطوف بالبيت الذي بناه إبراهيم مخبتين لله تعالى، وتتضح كذلك حينما ننتحي جانباً لنصلي ركعتين بعد الطواف بجوار مقام وقوفه الكريم؛ (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ۖ وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (البقرة: 125).
وتتجلى تلك الصلة المتينة مع إبراهيم عليه السلام وأسرته المباركة في سعينا بين الصفا والمروة، مستحضرين تلك المنهجية الربانية في بذل الجهد وحسن القصد وجميل التوكل على الله تعالى.
وكذلك نعيش مع إبراهيم وأسرته في الرمي، حيث نقف صفاً واحداً في وجه أعداء الله تعالى الذين جعلوا لله نداً، نرجمهم بصواعق الحق الذي ننتسب إليه، وبقوة الأخوة التي تربط بيننا، وبثبات العقيدة التي استقرت في جوانحنا.
كما تتعلم الأمة في الحج أنه لا استهانة بحكم من أحكام الله تعالى صغر حجمه أم كبر، فحصاة الرمي ليست صخرات تُرفع، ولا شذرات تُجمع، ولكنها أحجام وأعداد موصوفة، لا مجال فيها للإفراط ولا التفريط.
كما تتذكر الأمة أن عدوها ليس بني جلدتها من المسلمين، ولا جيرانها ولا أرحامها حتى وإن اختلفت وجهات النظر، إنما عدوها الذي يجب أن ترجمه عن يد واحدة، وترميه في اتجاه واحد، هو ذلك الشيطان المتربص بها ليل نهار، سواء أكان من أشقياء الجن أم من أتباعه من الإنس، سواء كانوا أنظمة دولية أو مؤسسات بحثية أو هيئات تعليمية أو منصات إفساد إعلامية، أو رموزاً دينية، فكل حلفاء الشيطان أضحوا شياطين يجب الحذر منهم، ورمي باطلهم، ومُعادة مناهجهم، مهما كان لأسمائهم من بريق، أو لألقابهم من تبجيل.
تتعلم الأمة أن سعيها يجب ألا يتوقف عند الأشواط السبعة، بل يجب أن يصبح السعي منهجية دائمة متجددة، فالمسلم لا يمل السعي، ولا يستطيل الطريق، ولا يعتريه الكسل، ولا تستهويه الدعة، فهو دائم السعي في مرضات ربه، متواصل الجهد في قضاء حوائج إخوانه.
ما أحوج الأمة في الحج إلى تلك التذكرة خاصة في هذا الوقت العصيب، لتعود مرة أخرى إلى أخوة الإيمان، تعود إلى أخوة اليقين، وصحبة السالكين، وقافلة العاملين.
ما أحوج الأمة إلى أن تتذكر أن دماءها حرام، وأعراضها حرام، وأموالها حرام، وأنها أمة واحدة، يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم.
إنه الدرس الأسمع، في الوقت الأحوج، للمنهجية الأنجح، لنتعافى بالدواء الأنجع؛ (وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيباً) (الإسراء: 51).