الحج من أقدس العبادات في الإسلام، فهو تمام الأركان، وباب الغفران، والسبيل إلى دخول الجنان، وإن الشيطان لا يهدأ له بال حتى يفسد على المسلم كل طريق يصل به إلى رضا الله تعالى، فما مظاهر وسوسة الشيطان في الحج، وكيف نحاربه وننتصر عليه؟
أولاً: هزيمة الشيطان في يوم عرفة:
روى الإمام مالك في «الموطأ» عن طلحة بن عبيد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَا رُئِيَ الشَّيْطَانُ يَوْمًا، هُوَ فِيهِ أَصْغَرُ وَلَا أَدْحَرُ وَلَا أَحْقَرُ وَلَا أَغْيَظُ، مِنْهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِمَا رَأَى مِنْ تَنَزُّلِ الرَّحْمَةِ، وَتَجَاوُزِ اللَّهِ عَنِ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ».
فالشيطان يسعى إلى إضلال الناس وإبعادهم عن الله تعالى، وحين يجد رحمة الله سبحانه تتنزل على عباده في يوم عرفة، ومغفرته تشمل المؤمنين الصادقين؛ فإنه يغتاظ ويتحسر، ويقول: يا ويلي يا ويلي!
كما أكد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن التزام المسلم بالخلق الحسن والانتهاء عما نهى الله عنه في يوم عرفة سبيل إلى مغفرة الذنوب، ففي صحيح ابن خزيمة، ومسند أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ عَرَفَةَ، فَجَعَلَ الْفَضْلُ يُلَاحِظُ النِّسَاءَ، وَيَنْظُرُ إِلَيْهِنَّ، وَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْرِفُ وَجْهَهُ بِيَدِهِ مِنْ خَلْفِهِ، وَجَعَلَ الْفَتَى يُلَاحِظُ إِلَيْهِنَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا ابْنَ أَخِي، إِنَّ هَذَا يَوْمٌ مَنْ مَلَكَ فِيهِ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ وَلِسَانَهُ غُفِرَ لَهُ».
وليس هذا في مشهد الحج فقط، بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكد أن المسلم يصل إلى المغفرة إذا صام يوم عرفة، ففي صحيح مسلم عن أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ»، فصيام يوم عرفة يكفر الذنوب، وهو متاح لغير الحاج، وهو تعبير عن انتصار المسلم على الشيطان.
ثانياً: حرب الشيطان في خطبة الوداع:
في صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبة الوداع: «إنَّ الشَّيْطانَ قدْ أيِسَ أنْ يَعْبُدَهُ المُصَلُّونَ في جَزِيرَةِ العَرَبِ، ولَكِنْ في التَّحْرِيشِ بيْنَهُمْ»، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤكد أن المسلم الذي يحافظ على صلاته وصلته بربه سبحانه وتعالى لا يمكن أن يعبد الشيطان، والشيطان يعلم ذلك جيداً، ولهذا فإنه لا يسعى لتحويل عبادة المسلم عن الله، وإنما يسعى إلى الوقيعة بين المسلم والناس، من أجل إفساد الثمرة الحاصلة من الصلاة، فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، والشيطان يأمر بالفحشاء والمنكر، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) (النور: 21)، فعلى المسلم أن يحافظ على صلاته وأن يحذر من المحاولات المتكررة للشيطان في إفسادها أو سرقة ثمرتها.
ثالثاً: حرب الشيطان في الدعاء:
في الحج لا يفتر لسان المسلم عن الدعاء وقلبه معلق بالله تعالى أن يستجيب له، والشيطان يترقب المشهد، ويرى ما يبديه العبد من ذل وطاعة الله، فإذا استجاب الله لعبده، فإن الشيطان يعلن عن هزيمته ويحثو التراب على رأسه.
ويدل على هذا ما رواه الطبراني عن عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا لِأُمَّتِهِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، فَأَكْثَرَ الدُّعَاءَ، فَأَجَابَهُ: «إِنِّي قَدْ فَعَلْتُ إِلَّا ظُلْمَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، فَأَمَّا مَا بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَقَدْ غَفَرْتُهَا»، فَقَالَ: «يَا رَبِّ فَإِنَّكَ قَادِرٌ أَنْ تُثِيبَ هَذَا الْمَظْلُومَ خَيْرًا مِنْ مَظْلَمَتِهِ، وَتَغْفِرَ لِهَذَا الظَّالِمِ، فَلَمْ يُجَبْ تِلْكَ الْعَشِيَّةَ بِشَيْءٍ»، فَلَمَّا كَانَتْ غَدَاةُ الْمُزْدَلِفَةِ أَعَادَ الدُّعَاءَ فَأَجَابَهُ: «إِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ»، قَالَ: ثُمَّ تَبَسَّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّكَ قَدْ تَبَسَّمْتَ فِي سَاعَةٍ لَمْ تَكُنْ تتَبَسَّمُ فِيهَا، فَقَالَ: «تَبَسَّمْتُ مِنْ عَدُوِّ اللهِ إِبْلِيسَ، إِنَّهُ لَمَّا أَنْ عَلِمَ أَنَّ اللهَ قَدِ اسْتَجَابَ لِي أَخَذَ يَدْعُو بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ يَحْثُو التُّرَابَ عَلَى رَأْسِهِ».
رابعاً: حرب الشيطان في رمي الجمرات:
أخرج ابن خزيمة والحاكم والبيهقي حديثاً صححه الألباني عن عبدالله بن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لمَّا أتَى إبراهيمُ خليلُ اللهِ صلواتُ اللهِ عليه وسلامُه المناسكَ عرض له الشَّيطانُ عند جمرةِ العقبةِ، فرماه بسبعِ حصَياتٍ حتَّى ساخ في الأرضِ، ثمَّ عرض له عند الجمرةِ الثَّانيةِ فرماه بسبعِ حصَياتٍ حتَّى ساخ في الأرضِ، ثمَّ عرض له عند الجمرةِ الثَّالثةِ فرماه بسبعِ حصَياتٍ حتَّى ساخ في الأرضِ».، قال ابنُ عبَّاسٍ: الشَّيطانَ ترجُمون ومِلَّةَ أبيكم إبراهيمَ تتَّبعون.
في هذا الحديث تأصيل لمنسك من مناسك الحج، وهو رمي الجمرات، ولهذه الشعيرة ثواب عظيم، حيث إن كل حصاة يرميها الحاج تكفر كبيرة من الموبقات، ففي صحيح الترغيب والترهيب عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «وأما رميك الجمار، فلك بكل حصاة رميتها تكفير كبيرة من الموبقات».
كما أن رمي الجمرات يجعله الله نوراً للعبد يوم القيامة، ففي صحيح الترغيب والترهيب عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رميت الجمار كان لك نورًا يوم القيامة».
هذا الثواب الجزيل جعله الله تعالى للحاج حين يرمي الجمرات، ترغيباً في أداء هذه الشعيرة، حتى تغرس في نفس المسلم معاني المجاهدة للشيطان الرجيم، الذي لم يخرج في وجه الخليل إبراهيم عليه السلام مرة واحدة، وإنما حاول ثلاث مرات حتى يصل إلى هدفه، وفي هذا دليل على أن الشيطان لا يمل من الوسوسة والمحاولة مع الإنسان حتى يغويه، فلا بد للمسلم أن بعي ذلك، فالشيطان قد يأتي من أجل الموضوع الواحد أكثر من مرة، وقد يظهر في أكثر من صورة، من أجل أن يغوي الإنسان.