ولد الفن الإسلامي في عهد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه، وبدأت الفكرة تتبلور وتظهر معالمها وتكتمل في العهد الأموي الأول في دمشق والثاني في الأندلس، ووصل الفن الإسلامي إلى أوروبا عن طريق الحجاج الأوروبيين إلى بيت المقدس، حيث كان الحجاج يعودون حاملين معهم المنتجات النفيسة والمنسوجات الراقية التي كانت تستخدم في الكنائس لروعتها ودقتها، ثم عن طريق حركة التبادل التجاري التي أدت دوراً مهماً في نقل جزء من حضارة الشرق المبهرة إلى أنحاء أوروبا خاصة في العصور الوسطي على يد التجار المسلمين.
وهناك حالة أخرى تركت أثراً كبيراً وفريداً على الأوروبيين؛ وهي بعد خروج المسلمين من الأندلس بعد مكوثهم بها 8 قرون، يقول د. محمد مرزوق، أستاذ الفنون الإسلامية: بعد خروج العرب من الأندلس نلاحظ أن بعض المسلمين آثروا البقاء في البلاد واستمروا يزاولون صناعاتهم وفنونهم، واستفاد الأوروبيون فائدة كبيرة من هؤلاء المدجنين -كما كانوا يسمون عادة في المراجع التاريخية- وليس من المبالغة في شيء إذا قلنا: إن المدجنين هم الذين أنشؤوا الطراز الوطني الإسباني الذي منه استمدت الفنون الأوروبية الشيء الكثير، فقد كانوا على سبيل المثال يستدعون إلى كل أرجاء إسبانيا للقيام بزخرفة المباني، ولا تزال بعض أعمالهم قائمة حتى اليوم ممثلة في «القصر» بأشبيلية»(1).
وقد تركت الفنون الإسلامية 5 علامات جوهرية في أوروبا مثلت أساساً للحضارة الحديثة، وهي:
1- الكتاب الورقي:
يعتبر الكتاب الورقي أهم وسيلة معرفية منذ فجر اكتشاف الورق على يد الصينيين الذين تعلم المسلمون على أيديهم تلك الصناعة، ومن ثم نقلوها إلى أوروبا، وفي كتاب «الفن الإسلامي تاريخه وخصائصه» قامت صناعة الورق في مدينة سمرقند أولاً، ثم خرجت منها إلى عواصم العالم الإسلامي، ثم وصلت إلى الأندلس وصقلية ومنها عرفتها أوروبا، وبدأت صناعته في إيطاليا في القرن الثالث عشر، ثم عرفتها فرنسا وألمانيا وتعلمها الإنجليز في القرن السادس عشر.
وقد بدأت في تاريخ أوروبا صفحات مشرقة بعد أن دخلت صناعته بلادهم، ولقد كان للأوروبيين فضل كبير في تطور الطباعة على يد جوتنبرج في القرن الخامس عشر، وقد سبقوا الشرق في هذا الميدان، ولكن لا ينبغي أن ننسى أنه لولا الورق ما تقدمت الطباعة إلى تلك الدرجة التي وصلت إليها.
ويقول في فقرة أخرى: وفن تجليد الكتب من الفنون التي سار فيها الأوروبيون على نهج المسلمين، وقد توصلت إلينا الكثير من جلود الكتب الأوروبية التي تنطق بهذا التأثر، ويكفي أن نشير إلى ظاهرة لم تكن مألوفة في جلود الكتب الأوروبية قبل القرن الخامس عشر هي «اللسان» التي نقلها المجلدون الأوروبيين عن الشرقيين(2).
2- المنسوجات:
أما في مجال المنسوجات، فقد كان للمسلمين فضل عظيم وأثر واضح في فن المنسوجات الأوروبية في العصور الوسطى، فقد قارن الأوروبيون بين المنتج العربي الإسلامي ومنتجاتهم، فكانت النتائج لصالح المنتج العربي من حيث جمال الزخارف وتنسيق الألوان ودقة النسيج وسموها بأسمائها العربية مثل قماش الشيفون على سبيل المثال، وبعضها حمل اسم البلد التي تنتج نوعية معينة من النسيج.
وأقبل الأوروبيون على المنسوجات العربية؛ مما اضطر صناع النسيج هناك أن يقلدوا المنتج العربي، وفي متحف فيكتوريا وألبرت بلندن أمثلة من هذه الأقمشة الإيطالية المقلدة(3).
3- صناعة الزجاج والخزف:
علم المسلمون الأوروبيون صناعة الزجاج والزخرف وتشكيل التحف الفنية، وعرفت البندقية بإنتاج الزجاج الشرقي، وفي متحف الفن الإسلامي بالقاهرة مشكاة في أواخر العصر المملوكي مستوردة من البندقية، كذلك صناعة الخزف الذي أبدع فيه المسلمون فابتكروا منه نوعاً حديثاً منه ذا بريق معدني وقد تعلمه الإيطاليون من الأندلسيين، الذين تعلموه بدورهم من المغرب وبغداد.
وانتقلت صناعة الخزف بعد ذلك من إيطاليا لكافة أنحاء أوروبا، ومن الكلمات التي انتشرت في أوروبا ولها صلة بهذا الخزف الإسلامي الأصل كلمة «albarello» المأخوذة من الكلمة العربية «البرنية» التي كانت تطلق على القدور الصغيرة المصنوعة من الخزف ذي البريق المعدني التي كانت تصدر إلى أوروبا حاملة في جوفها النباتات الطبية(4).
4- التحف المعدنية:
كانت التحف المعدنية الإسلامية المتميزة على ثلاثة أشكال، منها ما هو مرصع بالذهب، ومنها ما هو مرصع بالفضة، ومنها ما هو مرصع بكليهما معاً، وقد حمل الحجاج المسيحيون تلك الجواهر معهم من بيت المقدس إلى أوروبا قاطبة، وحين رأي الصناع الأوروبيون إقبال الناس عليها رغم ارتفاع أسعارها، فأقبلوا على تقليدها، ثم قامت إيطاليا باستقدام عدد من الصناع المسلمين إلى البندقية وشيدت مجموعة من المصانع لتنتقل صناعة التحف النفيسة من بلاد المسلمين إلى أوروبا، ويوجد غطاء وعاء من النحاس من صناعة القرن السادس عشر الميلادي معروض في المتحف البريطاني، ويزدان بزخارف إسلامية رائعة، وفي متحف فيكتوريا ولبرت صينية من النحاس من صناعة القرن الثامن عشر مكفت بالأرابيسك الجميلة، ويتوسطها أحد أمراء البندقية(5).
5- المشربيات الخشبية:
تميزت العمارة الإسلامية عامة بالمشربيات الخشبية، وقد برع النجارون المسلمون في أنحاء العالم الإسلامي في تشكيل الخشب لإخراج تحف فنية موجودة حتى اليوم في قصر الحمراء في غرناطة.
ويقول المؤرخ المعاصر تامر الزغاري: بعد سقوط غرناطة عام 1492م، دخل الملك فرناندو قصر الحمراء فوصف قصره الملكي إنما هو إصطبل تبن ووصف الحمراء قائلاً: محال أن يكون هذا من صنع البشر، بل شيدته الملائكة(6)!
وكانت مبعث الوحي لصناع المعادن من الأوروبيين في صناعة نوافذهم الحديدية ذات الحديد المشغول، حتى إن بعضهم حاول تقريب شكل الحروف اللاتينية للحروف المكتوبة بالخط الكوفي، ونجحوا في ذلك بالرغم من عدم إدراكهم للمعاني المكتوبة، وظن بعضهم أنها مجرد زخارف فنقلوها كما هي، ومنها كلمة التوحيد أو الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والإقرار بنبوته.
وفي المتحف البريطاني بلندن يوجد دينار ذهبي يحمل على أحد وجهيه كتابة نصها «لا إله إلا الله وحده لا شريك له»، ويحمل على الوجه الآخر كتابة لاتينية ترجمتها «محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون»، وأغلب الظن أن الصانع الأوروبي الذي ضرب الدينار والملك الذي أمر بضربه يجهلان مدلول هذه الكتابة الكوفية، ولو عرفا ذلك ما نقش على الدينار هذا النص الذي يتنافر مع عقيدتهما الدينية(7).
وكما قلد الصناع الأوروبيون الخط الكوفي دون إدراك لماهيته، فكذلك قلدوا فن الأرابيسك، وتوجد للآن نماذج رسومات لفنانين أوروبيين من الزخرفة الإسلامية يستعينوا بها في تشكيل التحف الفنية ومنهم الفنان الإيطالي العالمي ليوناردوا دافنشي، والمصور الألماني هولين الصغير.
6- فنون العمارة:
تأثرت العمارة الأوروبية أو القوطية والرومانسكية بشكل كبير بفنون العمارة الإسلامية، فالعقود المدببة، والعقود المفصصة، والعقود التي يحف بها من أعلى ومن الجانبين خطوط مستقيمة، والشرفات، والأعمدة المندمجة، ومآذن المساجد، والواجهات ذات الأشرطة المتوازية، تلك العناصر المعمارية والزخرفية التي رآها الفنانون الأوروبيون في العمائر الإسلامية المختلفة في أوروبا وفي الشرق قد تركت طابعها في مبانيهم.
ولعل خير مثال يجتمع فيه الكثير من هذه العناصر هو ما نراه في كنيسة القديس ميخائيل في مدينة لابوي في جنوب فرنسان، وما نشاهده في بعض عمائر مدينة بيزا في جنوب إيطاليا(8)، ومن الغريب أن من كشف عظمة الفن الإسلامي هم المستشرقون، ومنهم على سبيل المثال بلانشيه عام 1898م، ثم الجنرال بيلي 1908م بالبحث عن عاصمة بني حماد في الجزائر.
إن نقل الفنون الإسلامية من بلاد المسلمين عبر الأندلس والقدس لا ينكرها أحد، وما زالت آثارها وشواهدها باقية لليوم بروعتها ودقتها، وليس في المجالات الأدبية وحدها، وإنما في كافة مجالات العلوم، لقد خسرت الإنسانية كثيراً حين تخلف المسلمون عن حضارتهم المتوازنة، وما زالت حتى ذلك اليوم في انتظار عودة أمة الإسلام من جديد.
_______________________
(1) من كتاب الفن الإسلامي تاريخه وخصائصه، تأليف د. محمد عبدالعزيز مرزوق، أستاذ الفنون الإسلامية في جامعة بغداد.
(2) المصدر السابق، ص 207.
(3) المصدر السابق.
(4) الفن الإسلامي، ج2، ص 208.
(5) المصدر السابق، ص 209.
(6) محمد عبدالله عنان، الآثار الأندلسية الباقية في إسبانيا والبرتغال.
(7) كتاب تراث الإسلام، الترجمة العربية للدكتور زكي محمد حسن ج2، ص 99 – 3، القاهرة سنة 1936م
(8) كتاب د. أحمد فكري.