لا يمكن أن تجتمع الملايين من البشر في مكان واحد لعدة أيام متوالية، دون أن تحدث الخلافات بينهم، أو تقع المنازعات الناتجة عن اختلاف الرغبات أو الطمع في قضاء الحاجات، أو غيرها من الاختلافات الفطرية بين البشر، لكن الله تعالى أراد أن يضرب لنا مثالاً واقعياً يؤكد فيه أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي يستطيع أن يوفر لأتباعه الأمن والسلام لكل الكائنات، من خلال فريضة الحج، فكيف يسهم الحج في تحقيق السلام الاجتماعي؟
أولاً: التأكيد الشرعي على حرمة البلد الحرام:
أكد القرآن الكريم أن مكة بلد حرام، لا يجوز لأحد كائناً من كان أن يخرق أمنها أو يروع أهلها، حيث قال تعالى: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا) (البقرة: 125)، وقال عز وجل: (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا) (القصص: 57)، وقال تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) (العنكبوت: 67).
كما أكد الرسول صلى الله عليه وسلم أن مكة بلد حرام لا يحل فيه القتال، فقد أخرج البخاري ومسلم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم «فتح مكة»: «إنَّ هذا بَلَدٌ حَرَّمَه اللَّهُ يَومَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرْضَ، وهو حَرَامٌ بحُرْمَةِ اللَّهِ إلى يَومِ القِيَامَةِ، وإنَّه لَمْ يَحِلَّ القِتَالُ فيه لأحَدٍ قَبْلِي، ولَمْ يَحِلَّ لي إلَّا سَاعَةً مِن نَهَارٍ، فَهو حَرَامٌ بحُرْمَةِ اللَّهِ إلى يَومِ القِيَامَةِ»، ففي هذا دليل على تعظيم الله تعالى ورسوله لمكة المكرمة، وتأكيد على أمنها وسلامها إلى يوم القيامة، وفي هذا ترسيخ لقيمة السلام الاجتماعي.
ثانياً: الدعوة إلى السلام الاجتماعي لكل من عزم على الحج:
شرع الإسلام لمن يريد الحج أن يتطهر من مظالم العباد، ومن المال الحرام، فهو شرط لتحقيق التوبة ومغفرة الذنوب، ومن مظاهر التطهر من المظالم أن يطلب السماح والعفو ممن أذاه، وأن يسدد ما عليه من ديون، فهذه كلها شروط لتحقيق المغفرة، ويسهم أداؤها في تحقيق السلام الاجتماعي.
ثالثاً: الوعد بالمغفرة لمن حرص على السلام الاجتماعي أثناء الحج:
قال الله تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) (البقرة: 197)؛ والرفث: اسم للفحش من القول، والفسوق هو الخروج عن الطاعة إلى المعصية، والجدال هو النزاع والخصام، وقد أكدت السُّنة النبوية أن أداء الحج من غير رفث أو فسوق هو السبيل إلى مغفرة الذنوب ورجوع العبد منها كيوم ولدته أمه، فقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: سَمِعْتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: «مَن حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ، ولَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَومِ ولَدَتْهُ أُمُّهُ»، وفي الدعوة إلى منع الرفث والفسوق والجدال في الحج تأكيد على تحقيق السلام الاجتماعي بين الناس.
رابعاً: تحقيق الأمان للطير والحيوان:
حرّم الله تعالى على المحرم صيد البر، حيث قال عز وجل: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا) (المائدة: 96)، فإذا لبس الحاج ملابس الإحرام فليس له أن يصطاد من صيد البر شيئاً، وقد أكد الرسول صلى الله عليه وسلم أن البلد الحرام لا ينفر صيده.
ولهذا نرى الحَمَام وهو رمز السلام يأمَن على نفسه، فهو يطير هنا وهناك، وينتقل من مكان إلى مكان، لا يخشى عند الحرم أذًى أو عدوانًا، وكيف يخشى ذلك وهو في الحرم، وحول البيت الحرام، وفي البلد الحرام، وفي الموسم الحرام، حيث لا يكون اعتداء أو انتقام؟!
هذا في الطيور والحيوانات غير المؤذية للإنسان، أما ما كان مؤذياً ومخيفاً للناس فقد شرع الإسلام قتله في الحل والحرم، وذلك من أجل تحقيق الأمن والسلام للناس، فقد روى البخاري ومسلم عن ابن عُمَرَ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خَمْسٌ لاَ جُنَاحَ على مَنْ قَتَلَهُنَّ في الْحَرَمِ وَالإِحْرَامِ: الفَارَةُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْغُرَابُ، وَالْحِدَأَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ»، فهذه فواسق مؤذية للإنسان، وهي تهدد السلام النفسي الذي يحتاج إليه المسلم في الحج، ولهذا وجب قتلها، وفي هذا تأكيد على أن الهدف من هذا التشريع هو تحقيق الأمن والسلام الاجتماعي، فالحيوانات والطيور غير المؤذية للناس آمنة في الحرم.
خامساً: تحقيق الأمن والسلام للنبات:
الحج يوفر الأمن للناس والحيوانات والنباتات، حيث حرّم الإسلام قطع شجر الحرم ونباته، ففي الحديث الشريف: «إنَّ هذا البَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَومَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ، فَهو حَرَامٌ بحُرْمَةِ اللهِ إلى يَومِ القِيَامَةِ.. لا يُعْضَدُ شَوْكُهُ، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلَا يَلْتَقِطُ إلَّا مَن عَرَّفَهَا، وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا»، فَقالَ العَبَّاسُ: يا رَسولَ اللهِ، إلَّا الإذْخِرَ، فإنَّه لِقَيْنِهِمْ وَلِبُيُوتِهِمْ، فَقالَ: «إلَّا الإذْخِرَ»، ففي قوله: «لا يعضد شوكه»؛ يعني لا يقطع شوكه، وذِكرُ الشَّوكِ دَليلٌ على أنَّ غيرَه ممَّا لا يُؤْذي لا يقطع من باب أولى، وقوله: «ولا يُختلَى خَلاها»؛ أي: لا يُقطَعُ نَباتُها، لا الشَّجرُ الكِبارُ ولا الشجرُ الصِّغارُ، أو النباتُ الصَّغيرُ الذي هو الحشيشُ الرَّطبُ.
وقد أرادَ العبَّاسُ أنْ يُرخِّصَ لهم النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في نَباتِ الإذخرِ، وهو نَباتٌ عُشبيٌّ عَريضُ الأوراقِ مِن فَصيلةِ النِّجيليَّاتِ، له رائحةٌ لَيمونيَّةٌ عَطِرةٌ، أزهارُه تُستعمَلُ مَنقوعةً كالشَّاي، فرخص لهم فيه، وفي هذا دليل على أن السلام الاجتماعي مضمون للناس والحيوانات والطيور والنباتات، وجميع الكائنات ما لم يكن أي منها مؤذياً.