شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ دخوله المدينة يسعى لتثبيت دعائم الدَّولة الجديدة، على قواعد متينةٍ وأسسٍ راسخةٍ، فكانت أولى خطواته المباركة الاهتمام ببناء دعائم الأمَّة؛ كبناء المسجد الأعظم بالمدينة، والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار على الحبِّ في الله، وإصدار الوثيقة أو الدُّستور الإسلاميِّ في المدينة، الَّذي ينظِّم العلاقات بين المسلمين واليهود ومشركي المدينة، وإعداد جيش لحماية الدولة، والسَّعي لتحقيق أهدافها، والعمل على حلِّ مشكلات المجتمع الجديد، وتربيته على المنهج الربَّانيِّ في شؤون الحياة كافَّةً.
وكان أوَّلَ ما قام به الرَّسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة بناءُ المسجد؛ وذلك لتظهر فيه شعائر الإسلام، وقد روى البخاريُّ بسنده: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المدينة راكباً راحلتَهُ، فسار يمشي معه النَّاسُ؛ حتَّى بَرَكَتْ عند مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وهو يصلِّي فيه يومئذٍ رجالٌ من المسلمين، وكان مِرْبَداً للتَّمر، لسهلٍ وسُهَيْلٍ غلامين يتيمين في حِجْر أسعد بن زُرَارَة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بركت به راحلته: «هذا إن شاء الله المنزل»، ثمَّ دعا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الغلامين، فساومهما بالمِرْبَد ليتَّخذَه مسجداً، فقالا: لا، بل نهبُهُ لك يا رسولَ الله! فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبله منهما هِبَةً؛ حتَّى ابتاعه منهما.
وشرع الرَّسول صلى الله عليه وسلم في العمل مع أصحابه، وضرب أوَّل معولٍ في حفر الأساس؛ الَّذي كان عمقه ثلاثة أذرع، ثمَّ اندفع المسلمون في بناء هذا الأساس بالحجارة والجدران -الَّتي لم تزد على قامة الرَّجل إلا قليلاً- باللَّبن؛ الَّذي يعجن بالتُّراب، ويسوَّى على شكل أحجارٍ صالحةٍ للبنا، وفي النَّاحية الشَّمالية منه، أقيمت ظلَّةٌ من الجريد على قوائم من جذوع النَّخل، كانت تسمَّى «الصُّفة»، أما باقي أجزاء المسجد فقد تُرِكت مكشوفةً بلا غطاءٍ.
وأمَّا أبواب المسجد؛ فكانت ثلاثةٌ: باب في مؤخرته من الجهة الجنوبيَّة، وباب في الجهة الشَّرقيَّة، كان يدخل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم بإزاء باب بيت عائشة، وباب من الجهة الغربية يقال له: باب الرَّحمة، أو باب عاتكة.
وإن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المسجد كأول خطوة يقوم بها في المدينة بعد صوله إليها مباشرة، فيه دروس مهمة ودلالات عظيمة، ومنها أن إقامة المساجد من أهمِّ الرَّكائز في بناء المجتمع الإسلاميِّ؛ ذلك أنَّ المجتمع المسلم إنَّما يكتسب صفة الرُّسوخ والتَّماسك بالتزام نظام الإسلام، وعقيدته وآدابه، وإنَّما ينبع ذلك من رُوح المسجد ووحيه.
قال تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ {36} رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ {37} لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (النور).
والمسجد رمزٌ لشمولية الإسلام، حيث «أُنشئ ليكون متعبَّداً لصلاة المؤمنين، وذكرهم لله تعالى، وتسبيحهم له وتقديسهم إيَّاه بحمده، وشكره على نعمه عليهم، يدخله كلُّ مسلمٍ، ويقيم فيه صلاته وعبادته، ولا يضارُّه أحدٌ ما دام حافظاً لقداسته، ومؤدِّياً حقَّ حرمته»، كما «أنشئ المسجد ليكون ملتقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه، والوافدين عليه؛ طلباً للهداية، ورغبةً في الإيمان بدعوته وتصديق رسالته».
وللمسجد وظائف كثيرة، فهو مؤسسة لخدمة مصالح المسلمين الدينية والدنيوية معاً، فقد يتم إنشاء المسجد ليكون جامعةً للعلوم، والمعارف الكونيَّة والعقليَّة والتَّنزليَّة، الَّتي حثَّ القرآن الكريم على النَّظر فيها، وليكون مدرسةً يتدارس فيها المؤمنون أفكارهم وثمرات عقولهم، ومعهداً يَؤُمُّهُ طلاب العلم من كلِّ صوبٍ؛ ليتفقهوا في الدِّين، ويرجعوا إلى قومهم مبشِّرين ومنذرين، داعين إلى الله هادين، يتوارثونها جيلاً بعد جيلٍ». والمسجد مكانٌ يجد فيه الغريب مأوىً، وابن السَّبيل مستقراً، لا تكدِّره منَّةُ أحدٍ عليه، فينهل من رِفْدِه، ويعبُّ من هدايته ما أطاق استعداده النَّفسيُّ والعقليُّ، لا يصدُّه أحدٌ عن علمٍ أو معرفةٍ، أو لونٍ من ألوان الهداية، فكم من قائد تخرَّج فيه، وبرزت بطولتُه بين جدرانه! وكم من عالمٍ استبحر علمُه في رحابه، ثمَّ خرج به على النَّاس يروي ظمأهم للمعرفة! وكم من داعٍ إلى الله تلقَّى في ساحاته دروس الدَّعوة إلى الله، فكان أسوة الدُّعاة وقدوة الهداة، وريحانةً جَذَبَ القلوبَ شَذَاها، فانجفلت إليها تأخذ عنها الهداية لتستضيء بأنوارها!
ومنذ ذلك الحين كان المسجد، ومازال الدعامة الأولى لقيام أي مجتمع إسلامي ومدينة إسلامية، فهو حجر الأساس الذي تتفتق منه شؤون المسلمين الدينية والدنيوية على حد سواء، وهو دار العبادة التي تعبّر بقبابها ومآذنها عن هوية المسلمين وحضارتهم، وهو رمزٌ لمحاربة الشرك ومعلمٌ للتوحيد وعبادة الله الواحد سبحانه لا شريك، وهو وقفٌ عام للمسلمين وليس لأحد بعينه، فالمساجد لله وحده، قال تعالى: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) (الجن: 18).