كاتب المدونة: عامر ممدوح
قلنا أكثر من مرة وفي مناسبات عديدة: إن للحضارات والأنظمة السياسية هوية تجمعها وتقوم على أساسها، حتى لو كان استنزاف طاقات وموارد العالم عنوانها.
ولما كانت معركة «طوفان الأقصى» قد جاءت على الشواطئ الآمنة لعقود، فجرفت معها زبدها وظاهرها الناعم، فقد كشفت جوهر الأشياء، وأبانت عن حقيقة بواطن الأمور بعدما كان الران قد غطى عليها!
وفي ضمن ذلك، فإن مواجهة النظام العالمي المتسلط وتحطيم هيمنته على المشهد ليس فعلاً فردياً أو لحظة انقلاب مفاجئة، بل هو مقابلة نظام بآخر، وتفكيك يبدأ من الأساس المخفي وحتى قمته الظاهرة، وهو ما نراه يتحقق اليوم وعلى نحو ربما غير منظور للكثيرين، وليس بعيداً عن ذلك حالة الكشف والتجلي التي يحدثها نقاء مياه الطوفان، الذي يوقف الكثير من الأدعياء في الضفة الكالحة السوداء.
نعم، أدرك يقيناً وأنا أكتب هذه الكلمات في أمان واطمئنان، أن من يعيش منذ شهور تحت وطأة النيران لا ينتظر كلمات حتى يستشعر اليقين بالنصر، مع أن جيل النصر يحمل بشائره اليوم دون شك، ولكن ما أريد للآخرين علمه وفهمه والإيمان به، أن بعض الخطوات لازمة وتحتاج صبراً ليس بالقليل، وأن حركة النضال في التاريخ إنما بنت نفسها «طابوقة» (طوبة) بعد أخرى، حتى ارتفع البنيان!
هل هذا كلام إنشائي وقصيدة تغنّي بالبطولات وحسب؟!
أبداً، ففي المقابل لو نظرنا إلى ما يحصل بتمعن فهو سيمنحنا إضاءة باهرة للعبور خطوات إلى الأمام:
أليس استعادة فلسطين لموقعها اللائق بها في الاهتمام تفكيكاً مهماً في أسس النظام الداعم للكيان الغاصب المحتل؟!
أليس كشف زيف الديمقراطية الغربية انتصاراً للإنسانية وقبلها تقويضاً لهذا الركن الجاذب والخادع في أساس ذلك النظام؟!
أليس سجل الشهادة الوضّاء الذي يزداد يومياً بصبر ورباط فلسطيني عجيب وينعكس توهجاً عربياً وإسلامياً بعد طول انطفاء، سيكون محطة سوداء في تاريخ الدول الداعمة للنظام الوحشي الذي لا يعرف لغة سوى المحو للآخر والإقصاء؟!
إنها مكاسب لا ترى بسهولة، ولا تلمس بالأيدي، لكنها على المدى البعيد عظيمة في تأثيرها، بالغة في تردداتها على مقياس الإنسانية والفعل الإستراتيجي على حدٍّ سواء.
وأحياناً كثيرة، يتعجب البعض من سقوط الأنظمة القوية في لحظة مفاجئة، لكنها حقيقة هي إعلان وفاة رسمية لا أكثر بعد أن تكون ماتت سريرياً، وظلت واقفة على أسس هشة انهارت بمن معها بأضعف ريح حق واجهتها على غير ميعاد.
وحينها سيكتب المؤرخون تأريخاً جديداً عن نظام كان طاغياً لعقود لكنه زال في لحظة انبلاج فجر على يد ثلة من المؤمنين الأبطال.