الدين ظاهرة اجتماعية أصيلة لازمت الوجود الإنساني، فقد أيقن الإنسان البدائي أن للكون خالقاً ينبغي التوجه إليه بالعبادة، ورغم ذلك يحتل الدين كظاهرة اجتماعية موقعاً هامشياً ضمن النظرية الاجتماعية الحديثة ولدى علماء الاجتماع، وعلى سبيل المثال ناقش أنتوني غدنز، أحد أبرز رواد علم الاجتماع المعاصرين، في كتابه «علم الاجتماع»، الدين في الفصل السابع عشر بعد أن فرغ من قضايا: النسوية والجندر، وعلم اجتماع الجسد، والأسرة والعائلة، والعمل والبطالة.
وفي السطور التالية سنتناول علاقة الدين والعلمانية من منظور علم الاجتماع، ثم نتناول مسألة حتمية انتصار العلمانية على الدين التي يروج لها علماء الاجتماع.
تعريف الدين ومحدداته
يعترف علماء الاجتماع أن المعتقدات الدينية هي من التنوع والكثرة بحيث يتعذر إعطاء تعريف جامع مانع للدين، ويرون أن التعريف الشائع للدين بوصفه الإيمان بقوة علوية يخضع لها البشر توجههم أخلاقياً وتحدد سلوكياتهم تعريف قاصر لا يصدق على جميع المعتقدات في العالم.
ويفترضون أننا حتى نعرف الدين تعريفاً دقيقاً ينبغي أن نميز أولاً بين الدين والوحدانية؛ أي الإيمان بإله واحد، لأن بعض الأديان تؤمن بأكثر من إله، وبعضها الآخر لا يؤمن بمفهوم الألوهية الشائع؛ أي وجود إله متعال مفارق للكون.
ومن جهة أخرى، علينا أن نتجنب الربط بين الدين والتوجيهات الأخلاقية التي تحدد السلوك البشري؛ لأن بعض الأديان الحاضرة لا تنطوي على أي سلوك محدد ينبغي اتباعه.
وعلى الجهة المقابلة، يتم الاعتراف بمجموعة من الخصائص التي تشترك فيها جميع الديانات، ويرون أنها تشكل محددات لمفهوم الدين، وأهمها الرمزية الجماعية؛ وتعني أن جميع الديانات تتضمن مجموعة من الرموز التي تستدعي الرهبة (صليب، هيكل..)، وأنها ترتبط وثيقاً بمجموعة من الطقوس والشعائر والممارسات التعبدية، مثل: الصلاة أو القراءة أو الترتيل أو تناول طعام محدد، أو الامتناع عنه، وربما اتخذت هذه الشعائر طابع السلوك الفردي غير أن ثمة إجماعاً بين علماء الاجتماع أن السلوك الجمعي الاحتفالي هو أبرز خصائص المعتقدات الدينية التي تميزها عن ممارسات أخرى مثل السحر.
وعندما ننظر في هذا التعريف نجده يتضمن 3 عناصر محددة، هي: الرمز الديني المقدس، الشعيرة الدينية، الأداء الجمعي للشعائر، لكن عناصر أساسية تغيب عن هذا التعريف حتى ليعد تعريفاً ناقصاً برأينا، وهي: عدم وجود جماعة مخصوصة يعهد إليها بأمر إقامة الشعائر وضبط سلوكيات المؤمنين، وغياب نص مقدس تستمد منه الجماعة المؤمنة التعاليم الدينية، وافتقاد مكان محدد تقام فيه الشعائر الدينية التي هي شعائر جمعية بالضرورة.
وعلى أي حال، تأثرت المقاربات النظرية لعلم الاجتماع بالآراء التي طرحها ثلاثة من كبار المنظرين لعلم الاجتماع، وهم: ماركس، ودركهايم، وماكس فيبر، ولم يكن أي منهم متديناً، ولذلك تكهنوا بانحسار أهمية الدين وآثاره في المجتمعات الحديثة، ورجحوا حلول العلم والتقنية محله، وحول هذا المعنى قال دوركهايم: «لقد ماتت الآلهة القديمة»، وكان كل منهم يعتقد أن الدين في جوهره يمثل واقعاً موهوماً ومضللاً، ولكنه عظيم الأثر في الحياة البشرية، واستناداً إلى هذا ذهبوا إلى أن أشكالاً أخرى ستحل محل العقائد الدينية التقليدية، ورجحوا أن العلمانية هي المرشحة لذلك.
العلمانية والعلمنة
ظهر مصطلح العلمانية للمرة الأولى في أوروبا خلال القرن السابع عشر، وضمن هذا السياق الغربي المسيحي تطور المفهوم وأصبح يُستخدم لوصف ما هو «غير مقدس» و«غير كنسي»، ثم أصبح يعني الفصل بين الديني والسياسي.
وفي المقابل، يشير مصطلح «العلمنة» إلى العملية الإجرائية التي تفضي إلى تحول المجتمعات وتبدلها من مجتمعات دينية تقليدية إلى مجتمعات علمانية حديثة، وخلال عملية العلمنة يتم إقصاء الدين عن كافة المؤسسات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتربوية، حيث كانت هذه المؤسسات في السابق تخضع بشكل مباشر أو غير مباشر لسيطرة رجال الدين، كما يتم تجاهل الدين وتعاليمه من المجال العام بأسره، ومعها لا يصبح للدين أي تأثير على المؤسسات، ولا يكون لديه ما يقوله بشأن القضايا العامة، وإن كان موجوداً ومحصوراً داخل المؤسسة الدينية.
وهناك 3 مؤشرات يقيس بها علماء الاجتماع معدلات العلمنة داخل المجتمعات المعاصرة؛ أولها: يتعلق بتدني معدلات الانتساب إلى المؤسسات الدينية، أو في ضعف الإقبال المجتمعي على المؤسسة الدينية لحضور الصلوات وأداء الشعائر الدينية؛ وهو ما يؤشر إلى تآكل القاعدة الاجتماعية لهذه المؤسسات.
ويرتبط المؤشر الثاني بمستوى التأثير الاجتماعي والثروة والمكانة الذي تتمتع به المؤسسات الدينية؛ ففي الماضي كانت المؤسسات الدينية تتمتع بنفوذ معتبر، وكانت لها سطوة على النخب الحاكمة، لكنها فقدت ذلك النفوذ والتأثير الاجتماعي في المجتمعات الغربية وفي بعض المجتمعات الأخرى.
ويتجسد المؤشر الثالث في مدى التزام الناس بمنظومة العقائد والقيم، أو ما يسمى بالتدين، ومن الواضح أن المشاركة في أداء الشعائر لا يعبر بالضرورة عن العقيدة والقيم العليا، فكثير من الناس يمارس الشعائر، بل ويتردد على أماكن العبادة، لكن سلوكياتهم الفردية تكون بعيدة عن الامتثال للقيم الدينية والخضوع لها.
هل تنتصر العلمنة؟
على الرغم من اتفاق علماء الاجتماع على أن معدلات العلمنة تتعاظم في كافة المجتمعات، فإننا لا نذهب إلى هذا الرأي، ويجدر بنا في هذا السياق الإشارة إلى عدد من الظواهر التي تقوض فكرة حتمية انتصار العلمنة.
الأولى: أن العلمانية نشأت في ظل سياق زماني ومكاني محدد هو السياق الغربي، وحتى داخل هذا السياق لم تحرز العلمانية نجاحاً إلا بعد هزيمة الطوائف المسيحية المتنافسة التي أنهكتها الحروب المذهبية، عندئذ بدت العلمانية خياراً يمكنه توحيد الغربيين بدلاً من تفرقهم باسم الدين والكنيسة، وهذا السياق لا يمكن تعميمه عالمياً ويظل مرتبطاً بالخصوصية الغربية، وهناك أعداد من الدارسين الغربيين بدأت تؤيد هذا القول.
والثانية: افتقاد العلمنة في أكثر المجتمعات غير الغربية، بل إن هناك في المقابل تعاظم للأصولية الدينية، وهي تتجلى في ظهور الحركات الدينية وتعاظم دورها الاجتماعي والديني.
والثالثة: أن موقع الدين داخل المجتمعات الغربية هو أكثر تعقيداً وتشعباً؛ فما زالت العقائد الدينية والروحية تؤثر في حياة الأفراد، وتحدد سلوكهم، وذلك بصرف النظر عن مدى مشاركتهم في الشعائر الدينية المعتادة، إن أعداداً هائلة من الغربيين ما زالوا يؤمنون بالله أو بقوة علوية قادرة وهم يمارسون هذا الإيمان بطرق مختلفة خارج المؤسسة الدينية.
والرابعة: لا يمكن قياس العلمنة على أساس الانتساب إلى المؤسسات الدينية المتعارف عليها، فمثل هذا القياس لا يأخذ في الحسبان الاتجاهات والحركات الدينية التي نشأت في العقود الأخيرة خارج المجتمعات الغربية، وعلى سبيل المثال، تتضاءل نسبة مشاركة الغربيين في الأنشطة الكنسية، لكن نسبة المشاركة في الأنشطة الدينية تتزايد بصورة مطردة في أوساط كل من المسلمين والسيخ والهندوس واليهود.
إنه رغم تأكيدات علماء الاجتماع بتضاؤل نفوذ الدين وانحساره، فإن الدين ما زال حاضراً، ويؤدي دوراً مهماً في المجتمعات الغربية، ودوراً بالغ الأهمية في المجتمعات غير الغرب.