لم يكن أحد يتوقع أن الصراع الذي اندلع في 15 أبريل 2023م بين الجيش السوادني و«قوات الدعم السريع» سيطول إلى هذا الحد، ويسفر عن نتائج فظيعة، حتى وإن كانت بعض المؤشرات الأولية تنذر بذلك، فلقد سارعت البعثات الدبلوماسية بالخروج تباعاً من السودان، وشهد العالم أكبر وأسرع عملية إجلاء للدبلوماسيين والأجانب من ميناء بورتسودان إلى جدة ومنها إلى بقية أنحاء العالم.
في هذا الوقت العصيب، بقي الشعب السوداني وحيداً يواجه الموت، واللجوء، وانهيار النظام الصحي في معظم أنحاء العاصمة الخرطوم وعدد من المدن الأخرى.
بدأت رقعة الحرب في السودان تتسع، وظهرت في الأفق مبادرات الحلول، أبرزها «منبر جدة» تحت رعاية المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة، الذي ركز على القضايا الإنسانية فقط، تلت ذلك محاولات في نيروبي، وجيبوتي، أديس أبابا، وكامبالا، وحتى طرابلس دخلت على الخط، ولكن تضاربت الأخبار حول مقترحاتها.
هناك صراع عسكري بين الجيش و«الدعم السريع» وآخر سياسي بين «تقدم» و«ميثاق السودان»
فالمبادرات الأفريقية جنوب الصحراء لقيت ترحيباً من «الدعم السريع»، وتنسيقية القوى المدنية (تقدم) التي تأسست على قوى الحرية والتغيير (قحت) جناح المجلس المركزي، بينما رفضها الجيش السوداني، وفي مايو 2024م حدث تطور مهم، حيث اجتمعت لأول مرة قرابة 50 حركة سياسية سودانية على «ميثاق السودان»، وشكلت الكتلة الديمقراطية من «قحت»، وتحالفات أخرى العمود الفقري لهذا الميثاق.
السياسة بموازاة العسكرة
نحن إذاً أمام صراع عسكري بين الجيش السوداني ومليشيا «الدعم السريع»، وصراع سياسي بين «تقدم» و«ميثاق السودان»، على الرغم من أن «منبر جدة» بين الجيش والمليشيا انطلق مبكراً في مايو 2023م، فإن الأمر استغرق أكثر من عام ليتم تحديد 6 يوليو 2024م لأول مرة مؤتمراً بين «تقدم» وأعضاء من «ميثاق السودان» في القاهرة أيضاً، فهل سينجح هذا اللقاء في إبرام اتفاق سياسي يساعد الجيش والمليشيا على التوصل إلى حل؟ حتى من يشككون في هذا يؤكدون أن لقاء القاهرة هو الأول من نوعه في الجمع بين الفرقاء السياسيين.
تقييم الموقف يكشف عن سؤال محوري لم تتم الإجابة عنه، وبالتالي لا يمكن القول: إن الجميع يقرؤون من ذات الصفحة، السؤال هو: هل المطلوب إنهاء الحرب والمضي نحو السلام ودمج كافة العناصر في جيش موحد بما يحقق وحدة السودان؟ أم النظرة الإنسانية العاجلة بإيقاف الحرب بأي ثمن سياسي لا إنهائها، مما قد يؤدي إلى تقسيم جغرافي للسودان بين الجيش والمليشيا وبالتالي بين «ميثاق السودان» و«تقدم»؟
وجود عوامل خارجية إقليمية ودولية عطلت قدرات الجيش السوداني في الحسم العسكري
في بادئ الأمر، توقع كثير من المراقبين أن ينجح الجيش في الحسم العسكري، ولكن هذا لم يحدث؛ مما رجح فرضية التفاوض، يبدو أن وجود عامل خارجي قد عطل قدرات الجيش السوداني في الحسم؛ لأن المليشيا لم تعد مجرد مليشيا، بل ساهم الانقسام الدولي حول السودان في توفير مصادر تسليح وإمداد لها على مدى عام كامل، ربما بشكل أفضل من الجيش السوداني.
لننظر حول السودان للتأكد من هذا الأمر، فالأحداث في السودان ليست منفصلة عما يجري في المنطقة المحيطة، ينتمي السودان جغرافياً إلى إقليم شرق أفريقيا، حيث يوجد صراع مستمر في إثيوبيا، وقبلها جنوب السودان، والصومال، كما ينتمي السودان إلى إقليم الساحل، حيث توجد موجة حروب وانقلابات تشمل مالي، النيجر، تشاد، بوركينا فاسو، غينيا، وفي جنوب غرب السودان توجد جمهورية أفريقيا الوسطى المنقسمة بحدة بين النفوذ الروسي والأوروبي، وشمال غرب السودان توجد ليبيا في صراع مشابه للسودان ومتداخل معه، حيث يتهم السودان حفتر بالوقوف مع المليشيا.
الأزمة الليبية تشبه الأزمة السودانية لكن بصورة معكوسة، في السودان هناك جيش قومي كبير لديه حكومة ذات شرعية دولية في مواجهة مليشيا قادرة أكثر منه على الانتشار الجغرافي لكنها أقرب إلى مجموعات ومليشيات قبلية أصغر حجماً ولا تمتلك حكومة شرعية.
بعض الأصوات من «ميثاق السودان» تطرح حلاً يجمع بين الحسم العسكري والتفاوض
أما في ليبيا فنجد جيشاً منظماً في شرق البلاد تحت قيادة المشير حفتر، لا يمتلك حكومة ذات شرعية دولية، بينما توجد حكومة ذات شرعية دولية تعاني من خلل كبير في المكون العسكري المؤيد لها، الذي يتكون من مليشيات قبلية وأيديولوجية متفرقة.
الحسم العسكري والتفاوض
ربما يكون ما تم ذكره من سرد للأزمة السودانية وما يدور في المنطقة مؤشراً على الابتعاد عن الحسم العسكري الكامل، إذ لا يوجد نموذج على الإطلاق حقق هذا الأمر، هل سيكون السودان استثناءً وننتظر الحل العسكري، أم من الأفضل التعويل مبكراً على الحل التفاوضي قبل أن يصبح مستحيلاً؟ وما التقييم الحقيقي لكل مبادرة على حدة؟ وهل من الأفضل جمع المبادرات المتفرقة، أم التعويل على واحدة منها وإهمال البقية التي تعثرت؟
تطرح بعض الأصوات من «ميثاق السودان» حلاً يجمع بين الحسم العسكري والتفاوض، وتؤمن بضرورة أن يقوم الجيش السوداني بواجبه، وأن يتم توجيه التفاوض إلى الحواضن القبلية للمليشيا وليس إلى القيادات الكبيرة لـ«الدعم السريع»، فيما يعرف بتفاوض الصف الثاني أو التفاوض الميداني الأهلي، وقد فتح هذا الباب على مصراعيه للقاءات قائد الجيش مع وفود من القبائل التي تشكل غالبية مقاتلي «الدعم السريع» وبعض القادة الميدانيين الذين ينتمون لها، وقد رجح هذا كفة الجيش في مناطق من غرب السودان، ولكنه لم يحقق شيئاً في وسط السودان، حيث تستمر المليشيا في التمدد الجغرافي في ولايات الجزيرة وسنار، وبالرغم من نجاحها في الانتشار الجغرافي، فإنها لم تنجح في تأسيس حكم مدني طبيعي في مناطقها، فهي تكسب الأرض وتخسر من عليها.
البعض يرى أن الجيش قادر على تفكيك «الدعم السريع» إلى مليشيات صغيرة وإبرام اتفاقات معها
ويرى البعض أن الجيش السوداني قادر على الحل بتفكيك «الدعم السريع» إلى مليشيات صغيرة ومفككة، وإبرام اتفاقيات معها، والقضاء على من يرفض ذلك، هذا الحل ترفضه بعض قيادات الجيش لأنه يستبدل كيانات صغيرة بالمليشيا، في ذات الوقت يرغب الجيش في تأمين مصادر تسليح أفضل عبر الاتفاق مع روسيا ومنح موطئ قدم لها في ساحل البحر الأحمر، في هذه الحالة، سيكون الوضع في السودان أقرب إلى سورية من النماذج الأفريقية، حيث توجد مناطق خارج سيطرة النظام السوري لكنها لم تعد تشكل قيمة سياسية لتأسيس نظام موازٍ للحكومة الموجودة.