في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقف الصحابة بين يدي خليفتهم ليختاروا تقويماً خاصاً بهم كأمة بدأت في التوسع شرقاً وغرباً، وبلغت فتوحاتها مبلغاً بعيداً، وقد وصل في سنة 17هـ خطاب إلى أبي موسى الأشعري مؤرخ في شعبان، فأرسل للخليفة عمر بن الخطاب يستفسر عن الكتب التي تصل مؤرخة بالأشهر دون ذكر السنوات، مما قد يحدث خلطاً بين الرسائل، فجمع عمر الصحابة للبحث عن حل هذا الإشكال، فاختلفوا بين من يرى اعتماد تاريخ مولد الرسول صلى الله عليه وسلم ومن يرى اعتماد تاريخ وفاته، وبعضهم اقترح العمل بتأريخ الفرس أو الروم.
وبعد مشاورات واقتراحات وقع الاختيار على عام الهجرة النبوية الشريفة إلى يثرب التي أضاءت فصارت المدينة المنورة، وفي ذلك قال عمر رضي الله عنه: إن الهجرة فرقت بين الحق والباطل، فأرخوا بها، وأصبح هذا الحدث المهم بذلك انطلاقة التأريخ للأمة الإسلامية، الذي وافق بداية شهر محرم 622م.
والهجرة النبوية الشريفة لم تجعل فقط للأمة تاريخاً جديداً تبدأ به مسيرتها في إنقاذ البشرية وانتقالها من مرحلة عبادة العباد، لعبادة رب العباد، وإنما مثلت انتقالاً بالإسلام من الفكرة إلى البناء المجتمعي على أرض صلبة، حيث انتقل من الفراغ لوطن وأرض صلبة يقف عليها وينطلق منها، وتحول فيها النبي صلى الله عليه وسلم من شخص فرد، لفكرة باقية طالما بقيت البشرية، وتحول المضطهدون في بطحاء مكة لأمة لها الخيرية على سائر الأمم.
وقد تركت الهجرة النبوية مجموعة من الدروس والعبر والقيم والثوابت يجب على كل مسلم أن يحيط بها علماً كي تكون الهجرة انطلاقاً فكرياً وعملياً له في عملية إحياء الأمة من جديد:
1- الدين أغلى من الوطن، والوطن حيث تستطيع أن تقيم دينك:
لقد هاجر النبي صلى الله عليه وسلم تاركاً أرض آبائه وأجداده إلى أرض يقيم فيها الإسلام، وجدلية الدين والوطن شغلت الكثيرين وأثارت الكثير من البلبلة في أوساط الساسة والعوام في بلادنا خاصة في السنوات الأخيرة.
وهنا يجب أن نفرق بين حب الوطن، والتنازل عن الثوابت الإنسانية في سبيل هذا الحب، لقد ظل النبي صلى الله عليه وسلم يحب مكة حتى بعد هجرته المباركة، بل كانت أحب بلاد الله إلى قلبه، فعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكة: «ما أطيبك من بلد، وأحبك إليَّ، ولولا أن قومي أخرجوني منكِ ما سكنتُ غيرَك» (رواه الترمذي).
ولكن حين يتعارض حب الوطن مع إقامة الدين والدعوة إليه ويعطل مهمة المسلم، فعليه أن يغادره إلى وطن آخر يمكنه من إقامة شريعته فيقول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً) (النساء:97).
2- المهمات الصعبة يلزمها رفيق يحمل همها:
ليس أكبر من مهمة الانتقال بدين الله من أرض الكفر لأرض الإيمان، وليس أعظم من مهمة إنقاذ البشر من السقوط في النار والخلود فيها، ولذلك فيجب على المسلم أن يتخير صحبته التي تعينه على الاستمرار والثبات على طريق الحق، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم جعله الله أسوة للبشرية لتتعلم، وقد كان في غنى عن الصحبة أو المعين من غير الله وحده، لكن النبي صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله تعالى قدوة حسنة قد اتخذ كافة الأسباب الممكنة في رحلة الهجرة حتى اختيار رفيق الرحلة الصديق أبي بكر رضي الله عنه.
3- التخطيط الجيد وحسن التوكل على الله تعالى:
من أعظم الخطط البشرية في التاريخ كان التخطيط لرحلة الهجرة قبل أن يعرف الناس التخطيط لرحلة كتلك، يقول الله تعالى في أمر نبيه بالهجرة: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) (الأنفال: 30)، فأعد النبي صلى الله عليه وسلم للأمر عدته بإجراءات تضمن نجاح الرحلة رغم تربص قريش به واعتزامها قتله عليه الصلاة والسلام في تلك الليلة.
اختيار الرفيق وهو الصديق رضي الله عنه أحرص الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم على دعوة رب العالمين الذي قام بدوره بتجهيز الراحلتين قبل الهجرة بوقت كاف، تكليف عليّ بن أبي طالب بالنوم في فراش النبي صلى الله عليه وسلم ليعطي وقتاً كافياً لخروجهما والابتعاد عن مكة قبل اكتشاف الأمر والبدء في مطاردتهما.
تكليف طفل وهو عبدالله بن أبي بكر بجمع أخبار قريش وهو الذي لن يشك به أحد لصغر سنه لينقلها للنبي صلى الله عليه وسلم، تكليف عامر بن فهيرة يسير بقطيعه ليخفي آثار النبي صلى الله عليه وسلم، اتخاذ دليل للطريق رغم كفره، لكنه عارف بالطريق وفي ذلك أمين على السر، واختيار طريق غير معهود لقريش وهو الطريق الساحلي، والخروج وقت الظهيرة وهو وقت شديد الحر لا يخرج أحد فيه.
وقبل كل هذا تهيئة المدينة التي سوف يهاجر لها الدين لاستقبال الفكرة قبل الانتقال إليها والمجازفة بسلامة من يحملها.
وقد يخطط الإنسان ولا يأتي التخطيط بالنتائج المرجوة، وهنا يأتي دور التوكل على الله تعالى، فبالرغم من التخطيط الدقيق إلا أن المشركين استطاعوا بالفعل الوصول للغار الذي يختبئ فيه النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه، حتى قال أبو بكر رضي الله عنه: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فقال صلى الله عليه وسلم: «يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما» (رواه البخاري).
4- المرأة كالرجل في التكليف وحمل رسالة الإسلام:
كان للمرأة حضور في الحادث الأهم بتاريخ الإسلام، فتقول عائشة رضي الله عنها متحدثة عن نفسها وأختها أسماء: فجهزناهما (الراحلتان) أَحَثَّ الجَهاز (أسرعه)، وصنعنا لهما سُفرة (الزاد الذي يصنع للمسافر) في جِراب (وعاء يحفظ فيه الزاد ونحوه)، فقطعَتْ أسماءُ بنت أبي بكر قطعة من نطاقها، فربطت به على فم الجراب، فبذلك سميت «ذات النطاقين» (رواه البخاري).
أي أن دور المرأة في أهم رحلة تاريخية كان لا يقل عن دور أي رجل فيها، واستأمنهما النبي صلى الله عليه وسلم على السر الأكبر، وعهد إليهما بعمل بطولي في ظل تجمع قريش وتربصها بالصاحبين ومن يساعدهما، فالمرأة مكلفة كالرجل في حمل رسالة الإسلام والذود عنها والدعوة إليها.