الاجتماع شيء أساسي في الطبيعة الإنسانية فهو أمر لا تستقيم الحياة إلا به، إذ الإنسان بطبعه اجتماعي.
وما يجمع الناس أمور كثيرة، منها: العرق، القرابة والنسب، الفكر، المعتقد، الوطن، الجوار، العمل، المصالح.
ولا شك أن لكل هذه الجوامع علاقة بالانتماء وأبعاده المتعددة؛ عرقية أو مكانية أو زمنية أو دينية أو فكرية أو عملية.
والإسلام يراعي الواقع الإنساني ولا يرفض تعدد الانتماءات وتنوعها، إلا إذا أدت إلى ظلم وانتهاك لحدود الله تعالى، أو تحولت إلى عصبية مقيتة أو عنصرية مستعلية.
ولأهمية الجماعة في حياة الفرد والأمة، فإن هذا الدين يضع معايير أهم ومظلة أوسع أوثق بين أفراده.
إنه يجمعهم على الاتصال بالله والانتماء لمنهجه القويم، فيجعل الإسلام هو الجامع الذي عليهم أن يلتفوا حوله بعيداً عن العصبية العرقية والعلائق المادية والتشابكات المصلحية.
فكل تلك العلاقات التي تنتمي إلى الطين تنتهي بزوال الأهداف الآنية التي يرجى أصحابها تحقيقها، وهي في النهاية تحول الفرد إلى كم أو شيء في تلك الدوائر التي يمكن أن تضحي به إذا تعارضت مصالحها مع مصالحه، أو ربما يطفح البعد العصبي عرقياً أو جهوياً أو قبلياً ليكون عامل هدم للمجتمع.
لكل ذلك جعل الإسلام الدين أساساً لوحدة الأمة واجتماع أبنائها، وهو روح الانتماء الحق لمنهج الله ورسله.
هذا الانتماء العميق والواسع في آن معاً يتجاوز الزمان ويمتد في فضاءات المكان، فيغدو المؤمنون في كل أصقاع الأرض إخوة في الله، متجاوزين الجغرافيا والحدود، السياسة والاقتصاد، اللغة والعرق، البيئة والظروف.
وهو أيضاً -أي هذا الانتماء– عابر لحدود الزمان يمتد غائراً فيه متصلاً برسالات كل الأنبياء أعلام المنهج الرباني الواحد، فكلهم من ذات المنبع شربوا ومن نفس النور ارتووا، تقوم دعوتهم على التوحيد والوحدة، وعلى مكارم الأخلاق وعدالة التشريع، فجميعهم من آدم إلى محمد الخاتم صلوات الله وسلامه عليهم، في ركب واحد يتبع بعضهم بعضاً على درب الإسلام العظيم، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: «إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد، الأنبياء إخوة لعلات»، واتباعهم مهما تباعدت أزمانهم يجمعهم دين الله ومنهج الله ورسله.
والآية الكريمة التي تقدم إضاءات جليلة في عبارة موجزة وكلمات قليلة لهذا المعنى الامتدادي العميق لوحدة الأمة هي قوله تعالى: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء: 92)، وقال تعالى: (وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) (المؤمنون: 52).
وهذه وقفة قصيرة مع هاتين الآيتين:
– كلا الآيتين بدأت بأن والجملة الإسمية التي تدل على الثبوت والاستقرار؛ وفي هذا دلالات لا تخفى على أولي الألباب تشير إلى عمق المعني واستمراره وتواصله.
– الخطاب فيها موجه للرسل وأتباعهم؛ وفي هذا تشريف وتكليف، تشريف بالخطاب المباشر لهم من الله سبحانه وتعالى، وتكليف بفهم دلالات هذا الخطاب الرباني التشريفي والسعي لتحقيق مراد الله في الاعتصام بدينه وتوحيد الصف على منهجه.
– عند تتبع معاني كلمة الأمة في سياق هاتين الآيتين من خلال كتب التفسير نجدها تدور على معاني: الدين، المنهج، الشريعة، فالمراد بالأمة هنا الشريعة والدين الذي أنزله الله تعالى على أنبيائه ورسله، فالله يخاطب رسله وأتباعهم بأن شريعتهم واحدة لا تختلف في أصولها المتعلقة بالعقائد والعبادات والمعاملات وإن اختلفت في الأحكام الفرعية، وفي هذا إشارة إلى أن دين الرسل واحد، وأنهم جميعاً وردوا نفس المنبع، وساروا على منهج الله وصراطه المستقيم.
– وفي ختام الآيتين، يمكن أن نستشف ثلاثة معاني جليلة؛ الأول: أن الداعي إلى تمسكنا بهذا الدين القويم هو ربنا سبحانه، وقد استخدام القرآن هنا كلمة الرب التي لها معاني التربية والتزكية والرعاية، وهذا يجعلنا نحيي ونستأنس بظلال وارفة من الرأفة والراحة والقرب، الثاني: أن هذا المنهج القويم يقوم على توحيد الله تعالى مما يجعل المسلم بعيداً عن كل مظاهر الشرك والعبودية لغير الله التي تقيده بقيود الوهم والعجز والذل، الثالث: أن المطلوب من المسلمين أتباع المرسلين في كل زمان ومكان أن يكونوا أهلاً لفهم هذه المعاني العظيمة ويحققوا معاني العبودية الحقة ويسلكوا مسالك التقوى لينالوا الفوز العظيم في الدنيا والآخرة.
وقد جاءت الآيتان الجليلتان في سورتي «الأنبياء» و«المؤمنون» بعد حديث عن الرسل وذكر جوانب من رحلاتهم في ميدان الدعوة وجهادهم فيها، وفي هذا تناسق رائع للآيتين في السورة يجسد تناغماً مع السياق، ويؤكد الامتداد العميق والانسجام الرائع بين الأنبياء أصحاب المنهج القويم الذي يدعو إلى التوحيد ومكارم الأخلاق ويحث على الوحدة ونبذ الشقاق.
وفي ختام هذه الرحلة مع هاتين الآيتين لا بد أن أؤكد بعض التطبيقات العملية لننقل معانيها من التنظير إلى التطبيق، ومن القول إلى الفعل، وسأوجزها فيما يلي:
– إظهار مظاهر الاعتزاز بها الدين في مجالات حياتنا كآفة.
– البعد عن العصبيات الجاهلية بكل أشكالها وأنواعها.
– الدين الإسلامي هو الجامع لهذه الأمة الذي يستوعب تنوعها اللغوي والعرقي والدولي.
– السعي لخلق تقارب فكري ووجداني بين أبناء الأمة بداية من خلق آفاق تعاون بين نخبها إلى مؤسساتها إلى دولها.
– أفراداً وجماعات علينا أن يكون لنا دور في دعم ومساندة إخواننا المسلمين المظلومين والمستضعفين في كل أنحاء العالم، فذلك يجسد أننا أبناء أمة واحدة ويحقق معاني الأخوة الإيمانية.
– تعزيز الانتماء للأمة الواحدة من خلال تطبيق شرع الله والسير على منهجه والتخلق بأخلاقه ونشر قيمه في العالمين، كل ذلك يحقق معاني الانتماء الحقيقي لهذه الأمة الواحدة ويعيد لها مكانتها في المشهد الإنساني نهضة وحضوراً، عطاء وإشراقاً.