شغلت ظاهرة العولمة الكثير من المفكرين في الوطن العربي والإسلامي نظراً لخطورتها الكبيرة وتداخلها مع الثقافات العالمية بشكل كبير وتأثيرها السلبي على الهوية الثقافية الإسلامية خاصة بين فئات الشباب والفتيات، وتعددت تعريفات العولمة لتدور في مجملها حول سيطرة الفكر الاقتصادي والسياسي والأدبي والاجتماعي الغربي وهيمنته على سائر الثقافات لتذوب فيه وتصير ثقافة واحدة عالمية، ولذلك أسماه البعض «النظام العالمي الجديد»، وعرفها آخرون بأنها «فرض مفاهيم الثقافة الغربية على العالم بالطرق المتنوعة»(1)، وتعني أيضاً: تعميم الشيء وإكسابه الصبغة العالمية، وهي في الاصطلاح: توحيد دول العالم في المفاهيم والثقافات، والقيم والسلوك، وبقية الأنشطة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية(2).
أخطار العولمة على القيم والثوابت الإسلامية
تتمثل خطورة فكرة العولمة بهذا المفهوم، أو حسب مفهومها الغربي المهيمن في صرف المسلمين عن دينهم بأخلاقياته وقيمه ومبادئه وموروثاته ومعتقداته، لصالح الثقافة الغربية كاملة وذلك باتخاذ كافة أسباب السيطرة الفكرية المتدرجة كي لا يحدث صدام فكري أو رد فعل معاكس من الجماهير المسلمة.
وقد نجحت العولمة إلى حد كبير في السيطرة الفكرية على أجيال من المسلمين منذ منتصف القرن الماضي وقد بدأت مع الحرب العالمية الأولى وترسخت في الثانية، ومع حركة الاستعمار الغربي لبلاد المسلمين، وكذلك حركة الاستشراق، ثم استوثقت مع تطور السينما العالمية وهيمنة السينما الأمريكية على الفن العالمي لتقدم رؤية ثقافية أحادية الجانب في ظل غياب الهوية الإسلامية خاصة بعد سقوط الخلافة العثمانية وتشرذم المسلمين في دويلات مغلقة الحدود بعد أن كانوا قوة لا يستهان بجانبها.
ويبلور الشيخ يوسف القرضاوي أخطار العولمة على الهوية الثقافية المسلمة فيقول: «إن أشد ألوان العولمة خطراً وأبعدها أثراً هو عولمة الثقافة، على معنى فرض ثقافة أمة على سائر الأمم، أو ثقافة الأمة القوية الغالبة على الأمم الضعيفة المغلوبة، وبعبارة أخرى فرض الثقافة الأمريكية على العالم كله، شرقيه وغربيه، مسلمه ونصرانية، موحده وملتزمة، وثنية وإباحية، ووسيلته إلى هذا الغرض الأدوات والآليات الجبارة عابرة القارات والمحيطات من أجهزة الإعلام والتأثير بالكلمة المقروءة والمسموعة، المرئية بالصوت والصورة، البث المباشر وشبكة المعلومات وغيرها، إن العولمة الثقافية تريد أن تسلخنا من جلدنا، وأن تنزعنا من هويتنا، أو أن تنزع منا هويتنا وأن ننفق في أمتنا بضائعها الفكرية ومعلباتها الثقافية المؤثثة بالإشعاع والحاملة للموت والدمار»(3).
وبهذا ندرك حجم خطورة الاستسلام لفكرة العولمة وترك الأجيال تلو الأجيال تسقط فيها وتذوب دون مواجهة جادة بتنقيح ودراسة وإدراك مفهوم الثقافة الإسلامية وكيفية استعادة رونقها وقوتها لتقف في مواجهة المد الثقافي الغربي الذي يقوم بعملية إحلال وتبديل دون أن تحرك الأمة ساكناً.
فعلى سبيل المثال، كي تتضح هيمنة الثقافة الغربية بين الشباب العربي، يكفي أن نلقي نظرة على نوعية الملابس التي يرتديها الشباب من الجنسين، وكيف تجذب الموضة الغربية معظمهم ليتم تقييم الفرد بقدر ما يأخذ منها أو يترك، كذلك الفكر الإلحادي، وفكرة الرأسمالية، أيضاً ثقافة الاختلاط وعمل المرأة والنسويات وفكرة الزواج وبناء الأسرة، وامتد الأمر لظاهرة الإلحاد لتصبح موضة فكرية جديدة، فيلحدون لمجرد أن يقال عنه: مثقف.
وأما عن اللغة العربية ومحاولة تغريبها في بلاد العرب فحدّث ولا حرج، فبالكاد يمكن أن تجد محالاً تجارية باللغة العربية، ونجد الفتيات الصغيرات يتقن المفردات الإنجليزية أكثر مما يعرفن القرآن فتصير لغة أحاديثهم الخاصة ورمز تقدمهم أو تخلفهم.
وبهذا المفهوم والتداخل نجد أن للعولمة آثاراً مدمرة على الدين وعلى التعليم وعلى الأخلاق بحيث لا يمكن حصرها، بل ويجب تضافر الجهود للتصدي لها لعادة الأمة لصواب السبيل.
عالمية الإسلام.. والعولمة الغربية
وقد يخلط البعض بين عالمية الإسلام كمشروع سماوي إلهي ارتضاه الله عز وجل للبشر؛ فأرسل خاتم الأنبياء وسيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم به ليكون هداية للعالمين، والعولمة كمشروع هيمنة أرضية تجذب الإنسان لكل ما هو هابط خدمة للشيطان والمنتفعين من حوله.
والباحث المنصف يستطيع أن يفرق جيداً بين عالمية الإسلام وعولمة الغرب للعالم وإن لم يكن مسلماً، فانطلاقة المشروع الإسلامي منذ فجر التاريخ بنيت على مقولة الصحابي ربعي بن عامر لرستم قائد الفرس: نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج من شاء من عبادة العباد لعبادة رب العباد.
فالإسلام مشروع هداية من رب العالمين أنزله الله على رسوله لإسعاد الإنسان في الدارين، لا يبغي من خلفه مغنم، ولم يسأل الناس فيها أجراً.
وعالمية الدعوة لم يقررها شخص الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما هي طبيعة لازمة لهذا الدين قررها الله عز وجل في كتابه فقال سبحانه: (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ) (ص: 87)، وقال: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: 17)، وقال: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ) (آل عمران: 96)، وقال: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا) (الفرقان: 1)، وقال: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا) (سبأ: 28)، فعالمية الإسلام انسحبت على عالمية نبي الإسلام وأمته من بعده طالما كانت تحمل المشروع العالمي لهداية البشر والرحمة بهم، هو إذن تكليف رباني أكثر منه تشريف لأمة، مشروع بناء لا هدم، تعمير لا تخريب، قيم ومبادئ لا مكاسب ومغانم، أما العولمة التي بنيت على فكرة السيطرة والهيمنة الاقتصادية في بدايتها لتجريف خيرات الشعوب وتعبيدها لصالح فئة من البشر تحركهم العنصرية للأوروبيين، هو في الأساس مشروع تخريبي للعقول والاقتصاد والهويات ومحاولة لانتزاع الإنسان من كل ما يقويه ويحمي جذوره.
كيفية مواجهة العولمة بالثقافة الإسلامية
من المعروف أن الماء الجاري يطرد الماء الآسن إذا وقف في طريق جريانه، ومشروع العولمة هو ماء راكد عفن وإن بدا للمتابع غير ذلك، وما قوته البادية عليه من خلال وسائله المنتشرة إلا من ضعف القائمين على المشروع الإسلامي الرباني وقعودهم عن تجديد وسائلهم واكتفائهم بالتقوقع والدفاع عن الفكرة لفظاً لا فعلاً.
وفي إطار مواجهة العولمة يجب أن نفرق بين فكرة العولمة كفكرة مجردة، ووسائلها التي تستخدمها للانتشار، فنحن المسلمين يجب علينا حين نبحث عن حلول لمواجهتها، لسنا نقصد بها محاربة وسائلها، ولن نحارب وجود دور السينما، ولا نقوم بتحطيم أجهزة التلفاز أو الهواتف النقالة، فكل المنتجات ما هي إلا وسائل صنعها الغرب واستعملها لخدمة فكرته ووظفها بالشكل الذي تساعده، وقديماً أقر عمر بن الخطاب رضي الله عنه نظام الدواوين.
التأسيس لمؤسسات تربوية والتوسع في التخصصات التي تساعد في هذا المجال تحت إشراف الدول العربية والإسلامية، وإن لم يتيسر فليكن تحت إشراف مؤسسات إسلامية كبرى كالأزهر على سبيل المثال، والجمعيات الإسلامية المعنية والمنتشرة بربوع بلادنا، وكذلك الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين لوضع خطة تعليمية مرنة للتعامل مع عقول الشباب ومجابهة الفكر بالفكر.
– على المعنيين بالفن عموماً ورجال الأعمال خصوصاً، الاتجاه إلى الإنتاج الفني الموجه، وتتلخص أهمية الفن في سهولة توصيل المعلومة والقيمة التربوية بصورة ميسرة ومحببة إلى النفس.
– تطوير الإعلام وتوجيه العقول المتميزة لتغطية احتياجات الأمة في هذا المجال الخطير ليكون الخطاب على قدر الحدث وعلى قدر المهمة.
– توجيه طاقة الأمة وثرواتها للإنتاج وتوظيف الشباب لملء فراغهم الفكري والجسدي، كذلك الاهتمام بإعداد الفتيات لمهمة أعظم من مجرد الحصول على وظيفة للاستقلال المالي والأسري، ومواجهة ثقافة الاستهلاك التي حولت بلادنا لسوق استهلاكية كبيرة للمنتج الغربي.
وأخيراً فتلك خطوط عريضة لمواجهة مسألة خطيرة تؤرق علماء الأمة، لكن الإمكانات الضعيفة التي في أيديهم ما زالت معوقاً كبيراً في سبيل مواجهة تلك الإشكالية الكبرى، وما زال البون شاسعاً بيننا وبين قدرتنا على مواجهتها.
_______________________
(1) الثقافة الإسلامية والتحديات الفكرية المعاصرة وحقوق الإنسان، أ.د. حسن عبدالغني أبو غدة.
(2) المصدر السابق بتصرف.
(3) أخطار العولمة على الهوية الثقافية للعالم الإسلامي، أ.د. أبو بكر رفيق، ص 7.