تزداد التحديات في عالم عربي مثقل بالأزمات السياسية والاقتصادية، وتحيط به أمواج التكنولوجيا والتطور التقني السريع، وسط طفرات معلوماتية هائلة، وفجوات معرفية مع دول الغرب، تستدعي وقفة جادة لإعادة التعليم إلى مساره الصحيح، وفق خطط علمية مدروسة.
ونحن على أعتاب عام دراسي جديد، من المصارحة أن نقرأ بتمعن ويقظة وتقييم، نتائج مؤشر المعرفة العالمي لعام 2023م، لنعرف أن أمة «اقرأ» كانت خارج قائمة الـ25 الأولى على مستوى العالم، بحسب برنامج الأمم المتحدة الإنمائي.
وفق نتائج المؤشر الدولي، فإن الإمارات جاءت في المركز الـ26 عالميًا، وقطر في المركز الـ39 عالميًا، والسعودية الـ40 عالميًا، والكويت في المرتبة الـ44، وحلت البحرين في المركز الـ56، وعُمان 66، بينما جاءت تونس في المرتبة 81، ومصر الـ90 عالمياً، والمغرب 92، فيما جاءت موريتانيا في المرتبة الـ125 على مستوى العالم.
ويقيس المؤشر الأداء المعرفي للدول، وفق تقييمات تشمل 7 مجالات، هي: التعليم قبل الجامعي، والتعليم التقني والتدريب المهني، والتعليم العالي، والبحث والابتكار، وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، والاقتصاد، والبيئات التمكينية.
هذه التقييمات ليست جديدة من نوعها، وسنوياً تصدر مؤشرات عن جهات متخصصة بشأن جودة التعليم، غالباً ما تضع الدول العربية في مراكز متأخرة، تحمل في طياتها تراجعاً في مخرجات العملية التعليمية، رغم امتلاك بلداننا الثروات والقدرات والخبرات اللازمة لدفع قاطرة التعليم إلى الأمام.
قد يذهب البعض إلى تشييد المنشآت والمدارس والجامعات والمعامل المتطورة، وهناك دول تعتني بتعليم مناهج التدريس بلغات أجنبية، وأخرى تقوم بإقرار مناهج جديدة، وإلغاء مواد دراسية بدعوى التطوير، وهناك من يرسل بعثات علمية للخارج، أو يستقدم خبراء أجانب للنهوض بتعليم بلاده.
لكن خطط التطوير التي تعتني بالطالب، والمنشأة، والمناهج، والوسائط التعليمية، كثيراً ما تغفل العنصر الرئيس في المنظومة التعليمية؛ وهو المعلم والمربي والقائد، الذي بإمكانه أن يسد العجز في أي مكون مما ذكر سابقاً، إذا امتلك هو القدرات والخبرات والجودة الكافية، بل بإمكانه أن يكون هو مدرسة في حد ذاته.
في ضوء ذلك، هل نرتقي بمستوى المعلم؟ وهل نؤهله بشكل جيد؟ وهل نثري معارفه، ونطور إمكاناته؟ وهل نمنحه ما يحتاج، حتى لا يكون أقل مستوى من لاعبي الكرة، ومطربي الغناء الذين يحصدون الملايين، في مجالات لن ترفع أوطاننا إلى مصاف الأمم والشعوب المتقدمة؟!
على سبيل المثال لا الحصر، هناك مصر التي تسجل وفق وصف «بي بي سي»، أسوأ راتب شهري للمعلم العربي بقيمة 50 دولاراً شهرياً للمعلم المبتدئ، فيما يصل راتبه بعد سنوات من الخبرة إلى 200 دولار، بينما في تونس يتلقى المعلم راتباً قدره 250 دولاراً شهرياً، وفي الجزائر 350 دولاراً فقط!
في ضوء ذلك، فإن حال المعلم في كثير من بلادنا العربية لا تسر عدواً ولا حبيباً، وهو ما قذف به إلى العوز والفقر، وربما امتهان مهنة أخرى للوفاء بمتطلبات المعيشة، أو التحول إلى «بيزنس الدروس الخصوصية» لجني المال، غير عابئ برسالته التربوية، أو كونه منارة للعلم، وراية للقدوة والخلق القويم.
إن من المخجل أن يذهب المعلم إلى بيت التلميذ ليلقنه دروسه مقابل أجر ما، وقد يجده نائماً مثلاً فيرده أهله، غير مكترثين بقيمته، وكرامته، وأهمية دوره، وهو ما يحدث من قبل بعض الأسر، التي تظن أنها بمالها اشترت العلم والمعلم.
وفي بعض البلدان، هناك من يتطاول على المعلم، أو يسخر منه، أو يحيله للتحقيق، لمجرد أنه وبخ أو عاقب ابنه على تقصيره في أداء واجباته المدرسية، حتى صار المعلم «ملطشة» تُقدم صورته بشكل ساخر ومستفز في أعمال فنية وسينمائية هابطة.
ومن نافلة القول التأكيد على أن المعلم المؤهل الكفء هو حجر الزاوية في العملية التعليمية، وهو الأرض الخصبة التي إذا صلحت صلح غرسها وزرعها وحصادها.
تقول منظمة التربية والعلوم والثقافة (يونسكو): إن دول العالم تواجه نقصاً كبيراً في أعداد المعلمين؛ بسبب تردي أوضاعهم المعيشية، وعدم تقدير دورهم التعليمي وتعرضهم للإهانة، كما يجري تجاهلهم عند وضع السياسات التعليمية، وهو ما يجعل من مهنة التعليم غير جاذبة أو مستقطبة للكفاءات.
وعلى الرغم من العجز الصارخ في أعداد المعلمين عالمياً الذي يصل إلى 44 مليون معلم ومعلمة، فإن الخلل قائم ومستمر، في ظل غياب الإرادة السياسية في إصلاح أحوال التعليم، والنهوض بمستوى المعلم اقتصادياً ومجتمعياً وتربوياً وثقافياً، وهو ما يجعل خطط تطوير التعليم أشبه بالحرث في الماء، أو ضجيج بلا طحين.
نحن في أمس الحاجة إلى معلم مؤهل بشكل كامل، ملم بمادته الدراسية، والمهارات التعليمية المطلوبة، وأدوات التكنولوجيا الحديثة، وقبل ذلك، لديه خلفيات تربوية ونفسية جيدة، تستطيع التعاطي البنّاء مع أبنائنا، وتفهم احتياجاتهم، مع القدرة على غرس القيم النبيلة بداخلهم، وترسيخ الثقة فيهم، وتثوير روح الإبداع لديهم، وتحفيز الفضول العلمي بينهم.
ومن الضروري أن يكون لدينا معلم يجيد العمل بروح الفريق، والتواصل الفاعل مع أسر الطلاب، وأن يستطيع قياس مستويات الذكاء لدى طلابه، وأن يحتويهم بخلقه قبل علمه، وسلوكه قبل مادته الدراسية، بما يصل بنا إلى بيئة إيجابية في المدرسة، ومحضن تربوي ناضج، ومنصة إبداعية فاعلة، تدفع بلانا إلى المراتب الأولى على مؤشرات التعليم والمعرفة.
حينما نحتفي مع شعوب العالم في الخامس من أكتوبر المقبل بـ«اليوم العالمي للمعلم»، يجب علينا أن نستلهم الدروس من «طوفان الأقصى»، وأن نعمل على إطلاق طوفان جديد من العلم والمعرفة يواكب التطور التكنولوجي، ويقهر جيوش الجهل والتخلف والأمية، ويقود قاطرة التغيير نحو الأفضل.