تحدثنا في المقال السابق عن ماهية المؤامرة، وأقطابها، وغايتها، وأهدافها، وكذا الوسائل المتبعة لتحقيقها، ونستكمل في هذا المقال ما بدأناه هناك من 3 محاور:
أولاً: لماذا نجزم بشيطانية المؤامرة؟
في الحقيقة، كنتُ أعتقد في بداية الأمر أن غاية هذه المؤامرة التي ينفذها الماسون والصهاينة؛ تتمثل فقط في ضمان السيطرة الشاملة على مقدرات كوكبنا التعيس واقتصاداته، والأهم استمرار تحكمهم في العقل البشري وحشوِه وتوجيهه وفقاً لمآربهم اللعينة؛ أي سوقهم كالعبيد بكل سهولة ويسر، بيد أنه برصد الأحداث الرئيسة الجسام والتحركات الكبرى وتوجهاتها عالمياً، وعلى امتداد العالم الإسلامي على وجه الخصوص؛ اتضح بما لا يدع مجالاً للشك أنه بالإضافة إلى ما سبق؛ فإن الغاية الكبرى أكبر وأبشع من هذا كله، على أهميته الشديدة طبعاً، وبعد كثير من المتابعة والتأمل وربط الأمور ببعضها واستقراء الأحداث ومساراتها؛ تيقنت من أن أساس هذه الشرور والمؤامرات والكوارث الجسام هو مناطحة الشيطان للمولى جل في علاه؛ فهو يسعى لإضلال أكبر قدر ممكن من بني آدم؛ ليصل بهم إلى عبادته من دون الله؛ تحقيقاً لتحديه لله تعالى، وليودي بهم معه إلى جحيم الآخرة.
البراهين على صدق هذا الاستنتاج كثيرة؛ فإذا سلّمنا بأن نسبة كبيرة من الحروب والصراعات والكوارث وتنصيب الطغاة الفاسدين المفسدين وتثبيت أركان حكهم في بقاع كثيرة، بالإضافة إلى إلهاء الجنس البشري بالجنس والمخدرات والمسابقات الرياضية.. إلخ؛ إذا سلّمنا بأن بعض هذه البشاعات يمكن أن يندرج في إطار مساعي شياطين الإنس وأباطرتهم للاستئثار بغالبية مقدرات العالم وموارده بما يستلزمه هذا من إحكام السيطرة على العقول وتوجيهها إلى حيث يريدون؛ فقد تحقق لهم هذا بالفعل منذ أمد بعيد وبلا أي منازعة تُذكر، إذا سلّمنا بهذا كله، ففي أي إطار يمكن أن تندرج الرذائل والأوحال القِيمية والأخلاقية، والمهازل العقائدية التي يروجونها ويفرضونها بإصرار وبشتى الطرق والضغوط؛ التي لفرط بشاعتها تُخرج مقترفيها من دائرة الإنسانية أو تكاد؟ ما الإجابة عن هذه التساؤلات مثلاً:
– لماذا يعملون على نشر زنى المحارم بإلحاح وإصرار، وتغيير خلق الله تحولاً من الذكورة إلى الأنوثة والعكس، وكذلك دعم المثلية الجنسية والعمل على تطبيعها في العقول والنفوس وسن قوانين تشرعنها، بل وصل الأمر إلى فرض المثلية فرضاً على مختلف المحافل العالمية؛ السياسية، والرياضية، والثقافية، والعلمية، والفنية قبل هذا كله؛ بحيث يصبح كل من يبدي رأياً مناهضاً لها؛ باعتبارها تتعارض مع الفطرة البشرية السوية والقيم الإنسانية المشتركة؛ أي مجرد معارضة بالرأي ولا تنطلق حتى من أي شريعة، يصبح مطارَدا حتى في قلب قلاع حرية الرأي في الغرب التي تتسع للتطاول على الله وازدراء الأديان وإشاعة الفاحشة التي وصلت إلى حد ممارستها مع الأطفال والحيوانات وعلناً لمن أراد، بينما لا تتسع لأي رأي يعارض أياً من هذه الموبقات؟!
– لماذا يعملون بلا كلل على نشر الإلحاد بهذا الاتساع، ودعم وترويج ازدراء الشرائع السماوية على أوسع نطاق، والتجرؤ بالتطاول على الذات الإلهية؟ وفي إطار هذه النقطة وسابقتها؛ نشير إلى المهزلة الشيطانية الكارثية؛ التي شهدها حفل افتتاح مسابقات الألعاب الأولمبية الصيفية في باريس قبل بضعة أسابيع؛ فهل يُعدّ كل هذا من ضرورات السيطرة على العالم المتحكمين فيه فعلاً؛ وبعد أن أضعفوا فكرة التدين أساساً في أغلب بقاع العالم؟!
– لماذا ظهر الحديث منذ فترة في بعض الكتابات العامة والأعمال السينمائية وغيرها عن مظلومية إبليس ومناقبه وخصاله الحميدة وقدراته الفائقة؟ ولماذا تظهر من آن لآخر وفي شتى أصقاع الأرض دعوات لعبادته؟ وهل تدخل عبادة الشيطان ضمن ضرورات السيطرة على موارد العالم ومقدراته؟!
الأمر واضح والحقيقة ناصعة، هذه هي غايتهم بالفعل، التي لم أجزم بها إلا بعد رحلة طويلة من الاطّلاع، ورصد الأحداث والكتابات وتتبع مساراتها، وربط الأمور ببعضها، وتحليلها، وصولاً إلى الاستنتاج واستقراء غاياتها؛ منطلقاً بشكل أساس من كتاب ربنا، جل في علاه، لا سيما ما أخبرنا به سبحانه عن إبليس اللعين وغاياته المريدة ووسائله الخبيثة، الذي أذكر بعضاً منه فيما يلي: (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ) (النساء: 119)، (فِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) (ص: 82)، (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ {39} إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (الحجر)، (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) (الأعراف: 16).
ثانياً: لماذا الإسلام هو عدوهم الأكبر؟
بما أن غايتهم، وأهدافهم، ووسائلهم؛ على نحو ما ذكرنا كان لا بد من اصطدامهم بالإسلام، بل كان لزاماً أن يكون عدوهم الأول والرئيس؛ لأنه القوة الوحيدة الباقية على وجه البسيطة حالياً؛ التي تستطيع مجابهة هذا المشروع الشيطاني بما يملك من منظومة أخلاقية وقِيمية وتشريعية متكاملة، وعميقة، ومتينة، ومتوازنة روحاً وعقلاً، ومترابطة؛ والأهم أنها مرتبطة في نفوس معتنقيها بالسماء؛ أي بالواحد الأحد؛ مما يعطي الإسلام قدرة هائلة على النفاذ إلى العقول والقلوب والقرار في أعماقهما، وقدرة أكبر على الحشد والتعبئة بأشكالها كافة، ومحصلة هذا كله ومؤداه أن الإسلام هو العقبة الكأداء الوحيدة أمام وصول القافلة الشيطانية إلى غايتها تلك.
من هنا وقع الصدام الذي بدأ مبكراً ومدوياً ومروّعاً، ولهذا تنصبّ جهودهم بشكل رئيس على البلدان المسلمة المؤثرة، أو حتى التي تمتلك مقومات تأثير غير مفعَّلة؛ هذه الدول التي يمكن أن تشكل مجتمعاتها نواة يلتف حولها المسلمون، لا سيما هؤلاء المسلمون النوعيون، إذا جاز التعبير، بل يجري قسط كبير من هذا الصراع مع الشخصيات التي تشكل رموزاً قائمة أو محتملة، سواء كانت رموزاً محلية ينحصر دورها في دائرة مجتمعها، أو عابرة للشعوب والحدود؛ من العلماء المسلمين الربانيين والمفكرين المسلمين البارزين، حتى وصل الأمر إلى تنقيتهم فرداً فرداً من مختلف بقاع الأرض.
ومن الأمور الكاشفة في هذا السياق ما يجري على أرض غزة الطاهرة؛ إذ إن النصر الذي حققه مجاهدونا في غزة لا يتمثل بالدرجة الأولى في ملاحم البطولات التي سجلوها في ساحات الوغى، وما زالوا، إنما يتمثل أساساً في رمزيته كونه ضربة موجعة للماسونية الشيطانية التي ظنت أنها قضت على جوهر الإسلام وروحه ووجوده الحقيقي الإيماني، أو أوشكت على الأقل، بعد مكاسبها الكبيرة وانتصاراتها المدوية في هذا الميدان؛ التي يكفي أن أذكر من بينها هنا نجاحها في إزاحة مصطلح «الجهاد» من قاموس المسلمين الحيّ المعاصر تقريباً، وتحويله إلى تهمة شنيعة، حتى إن مجاهدينا في غزة أنفسهم -ومع إكباري لهم ولبطولاتهم وربما تفهمي لتصرفهم هذا- لا يسمون أنفسهم علناً بالمجاهدين، ولا ينعتون بطولاتهم بأنها جهادية، بل يقال دائماً «المقاومة» و«المقاومون».
ثم حدث أن استيقظت الماسونية الشيطانية فجأة على حرب جهادية إسلامية؛ أحيَت الوجدان الإيماني في نفوس المسلمين، واستدعت إلى أذهانهم الأحداث والمفاهيم والمعاني القابعة في الأعماق السحيقة لأرشيف الذاكرة الإسلامية؛ مفاهيم الجهاد العقدي الإسلامي القائم على بيع المجاهدين أرواحهم وأهليهم وما يملكون في تجارة مع الله، مفهوم الفئة المؤمنة قليلة العدة والعدد والناصر؛ التي تغلب فئة كافرة معتدية هائلة العدة كثيرة العدد والأنصار؛ أي أنها استحضرت في نفوسنا نحن المسلمين غزوة «بدر» وما تلاها من بطولات جهادية إيمانية.
وهذا هو ما تسبب في السعار المحموم للماسونية واستنفارها لجميع أذرعها ومخالبها؛ المتمثلة في أكبر وأقوى جيوش العالم وأضخم اقتصاداته، وأكبر وسائل الإعلام انتشاراً في أصقاعه، والتصميم على تركيع غزة ومجاهديها بأي ثمن؛ لأن خروج غزة من الحرب، واقفة على قدميها، حتى مع هذا الدمار الهائل الذي أصابها وأصاب أهلها، يجعلها شعلة ونبراساً ومؤذِّناً يوقظ العقيدة القوية والإيمان اللامتناهي في نفوس المسلمين، والأخطر أنه يحوّل ملحمة غزة إلى جسر يربط المسلمين وواقعهم الراهن بجهاد أسلافهم الأسطوري، وينزع الوهن من قلوبهم، فضلاً عن أنه قد يشجع الشعوب المسلمة على التحرر من كل قيد وظالم أياً كان موقعه منهم أو فيهم، وباختصار هي نقطة مفصلية فارقة في الصراع بين الماسونية الإبليسية، وبين الإسلام وأهله.
ثالثاً: أين تقف المؤامرة اليوم؟ وما مصيرها المتوقَّع؟
على الرغم من نجاحاتهم الكبيرة في مسارهم الشيطاني هذا، ومع أن غالبية أبناء الجنس البشري قد أسلموا زمامهم لهم بهذا الشكل العجيب الذي يصعب وصفه، بما في ذلك نسبة هائلة من بيننا؛ فإنني لا أسلّم لهم بالنتائج والغلبة في نهاية المطاف أبداً، فإذا كانوا قد حاكوا مؤامراتهم الإبليسية بإحكام؛ فإنني أبني ثقتي وطمأنينتي على وجود الله تعالى وقدرته القاهرة، وأقداره النافذة؛ فالله ناصر دينه لا محالة، سواء استعملَنا إذا غيرْنا ما بأنفسنا، أو استبدل بنا غيرنا، ومن هنا يطرح السؤال المصيري نفسه علينا: هل سنغيّر ما بأنفسنا حتى يغيّر الله ما بنا؟