يحلم الناس بالعيش الآمن والتواصل الفعال الذي يحقق المصالح الفردية والجماعية، ويعصم من الانحرافات التي تهدد السلام النفسي والمجتمعي للناس، ومن هنا حرص الإسلام على بناء السلام الاجتماعي وحمايته، ويتبين ذلك فيما يأتي:
أولاً: الدعوة إلى السلام:
إن الله تعالى سمى نفسه السلام، وسمى جنته دار السلام، ودعا عباده إليها، وجعل كتابه هادياً إلى السلام، حيث قال الله تعالى: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ) (الحشر: 23)، وقال عز وجل: (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (يونس: 25).
وقد حث الرسول صلى الله عليه وسلم على السلام، من خلال الترغيب في دخول الجنة، التي بيّن أن طريق الوصول إليها في شيوع المحبة بين الناس، وسبيل تحقيق ذلك هو إفشاء السلام، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تَدْخُلُونَ الجَنَّةَ حتَّى تُؤْمِنُوا، ولا تُؤْمِنُوا حتَّى تَحابُّوا، أوَلا أدُلُّكُمْ علَى شيءٍ إذا فَعَلْتُمُوهُ تَحابَبْتُمْ؟ أفْشُوا السَّلامَ بيْنَكُمْ»، وقالَ صلى الله عليه وسلم: «يا أيُّها النَّاسُ، أفشوا السَّلامَ، وأطعِموا الطَّعامَ، وصِلوا الأرحامَ، وصلُّوا باللَّيلِ، والنَّاسُ نيامٌ، تدخلوا الجنَّةَ بسَلامٍ».
ثانياً: التأكيد على روح التعارف والتعاون:
يحرص الإسلام على تحقيق السلام الاجتماعي، فيوقظ في أفراده روح التعارف والتعاون، حيث قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) (الحجرات: 13)، فلا ينبغي أن يتخذ الناس من الاختلاف بينهم في الثقافات أو الميول أو العادات والتقاليد أو الشرائع سبيلاً إلى النزاع والصراع؛ وإنما يجعلون هذا الاختلاف والتنوع سبيلاً إلى التعارف والتكامل والتعاون، وقد أمر الله بذلك في قوله عز وجل: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة: 2)، ودعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى التعاون بين الناس حين أكد أن «الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه»(1).
ثالثاً: الدعوة إلى التعايش السلمي مع الآخر:
ينظر الفكر الإسلامي إلى الأفكار الأخرى على أنها متولدة عن سُنة الاختلاف بين البشر والتنوع بين الثقافات، ويعتمد في هذا على ما قرره الإسلام من ضرورة الاختلاف بين البشر، حيث قال الله تعالى: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ) (المائدة: 48)، والسبيل الأمثل في التعامل مع الاختلافات الفطرية بين الناس التعايش السلمي الذي يقوم على الاعتراف بالآخر، وتقديره واحترامه، وحسن التعامل معه، وإذا كان الاختلاف بين الناس في المجتمع بسبب اختلاف الدين والشريعة، فقد أمر الله تعالى المسلم أن يسالم غير المسلم ما دام الآخر مسالماً، وفي هذا يقول الله تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة: 8).
أما إذا كان المخالف مسلماً، لكنه سيئ الخلق في نفسه دون أن يعتدي على غيره؛ فقد أمر الإسلام بتجاهله، من أجل تحقيق السلام في المجتمع، فقد وصف الله تعالى عباده المؤمنين بالإعراض عن الجاهلين، حيث قال تعالى: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) (القصص: 55)، وقال عن عباد الرحمن: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) (الفرقان: 63).
رابعاً: الدعوة إلى حسن القول:
لقد أمر الإسلام أتباعه بالكلمة الحسنة في كل الأحوال، واختيار الأسلوب الأمثل في مخاطبة الآخرين، من أجل قطع السبيل على الشيطان الرجيم، حيث إن الشيطان يتخذ من سوء القول وسيلة للإيقاع بين الناس، وإشعال العداوة والصراع بينهم، وفي هذا يقول الله تعالى: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا) (الإسراء: 53).
خامساً: الدعوة إلى حسن الجوار:
إذا أحسن الناس الجوار فيما بينهم، كان ذلك سبيلاً إلى سلامة المجتمع وأمانه، أما من كان يشكل مصدر خوف وقلق على جيرانه؛ فقد نفى عنه النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان، حيث قال: «لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه».
سادساً: الدعوة إلى مسالمة الناس وتأمينهم:
إن الإسلام يدعو إلى مسالمة الناس وتأمينهم، ففي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده».
سابعاً: سيادة القانون واحترامه:
إن إرساء قواعد القانون واحترامها سبيل إلى هدوء النفوس وانتهاء الشحناء والبغضاء بين الناس، ولهذا عندما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة وأراد أن يبني مجتمعاً آمناً يسوده السلام؛ أقام معاهدة مع غير المسلمين، وجعل لها قوانين واضحة يجب أن يلتزم بها الجميع، كما أنه صلى الله عليه وسلم كان يواجه المخالف من الناس للقانون بالجزاء الواضح المعلن، ولا يحابي أحداً في ذلك.
ثامناً: تجريم كل سبيل يؤدي إلى تهديد السلام الاجتماعي:
لقد حذر الإسلام من كل السبل التي تؤدي إلى تهديد السلام الاجتماعي، فحرّم كل سلوك قد يؤدي إلى إيغار الصدور أو الوقيعة بين الناس أو إشاعة الإرهاب في المجتمع، ومن ذلك ما يأتي:
أ- نهى الإسلام عن السخرية بالآخرين؛ حيث إن السخرية تؤدي إلى احتقار الناس وإيغار صدورهم؛ مما قد يؤدي إلى الوقيعة وتهديد السلام الاجتماعي بينهم، ولهذا نهى الله تعالى عنها؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ) (الحجرات: 11).
ب- نهى الإسلام عن سوء الظن بالناس، حيث قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) (الحجرات: 12).
جـ- نهى الإسلام عن الغيبة، وهي أن تذكر أخاك بما يكره، حتى وإن كان فيه ما تقول، لأن ذلك يشعل نار الكراهية في قلبه، ولهذا نهى الله عنها في قوله عز وجل: (وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ) (الحجرات: 12).
د- نهى الإسلام عن النميمة، وهي نقل الكلام بين الناس على جهة الإفساد، وذلك يؤدي إلى القطيعة بين الناس، كما يؤدي إلى الغضب وإشعال الصراع بينهم، ولهذا حرم الإسلام على النمام أن يدخل الجنة، ففي الصحيحين عن حذيفة بن اليمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ نَمَّامٌ».
هـ- حرّم الإسلام ترويع الآمنين سواء كان ذلك بالهزل أو الجد، ويدل على ذلك ما رواه أبو داود عن عبدالرحمن بن أبي ليلى أن الصحابة كانوا يسيرون مع النبي صلى الله عليه وسلم، فنام رجل منهم، فانطلق أحدهم إلى حبل معه فأخذه، ففزع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا».
وأمَّا إذا كان الترويع جديًا يقصد به إفزاع الناس وإخافتهم، أو قتلهم، أو أخذ أموالهم أو قطع الطرق عليهم وتعطيل مصالحهم، أو الجمع بين كل ذلك أو بعضه؛ فهذا ما تسميه الشريعة الإسلامية بالحِرابة، وقد جعل الإسلام للحرابة حداً تختلف العقوبة فيه بحسب اختلاف نوع الجريمة، وذلك للحفاظ علي أمن المجتمع وسلامه، وفي ذلك يقول تعالى: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (المائدة: 33)، والمتأمل في هذا التشريع الرباني يوقن بأن أهمية الأمن في المجتمع المسلم، هي التي جعلت الإخلال به محاربة لله ورسوله، وكانت عقوبته من أشد الحدود صرامة وحسماً في الإسلام.
و- حرم الإسلام الاعتداء على النفس بالقتل، قال الله تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) (الإسراء: 33)، وقال عز وجل: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) (النساء: 93)، ولا يقتصر الأمر على حرمة التعدي على الإنسان فقط؛ إنما تجاوزه إلى الحيوان، تحقيقاً للأمن والاستقرار لكل عناصر المجتمع، فقد دلت السُّنة النبوية على أن التعدي على الحيوان بإزهاق روحه ظلمًا وعدوانًا جريمة يستحق فاعلها دخول النار، ففي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «دخلت امرأة النار في هرّة ربطتها، فلم تطعمها، ولم تدعْها تأكل من خشاش الأرض»، فإذا كانت هذه عقوبة قتل الحيوان بغير حق، فكيف بقتل الآدمي المعصوم؟!
_________________
(1) رواه مسلم (2699).